في مسرحية شكسبير يوليوس قيصر، وعندما تلقى يوليوس 26 طعنة من الشيوخ أملا منهم في إنقاذ روما وليتفرّق دمه بينهم، كانت أقسى الطعنات من بروتس الصديق الصدوق للقيصر، ليطلق هذا الأخير جملته الأشهر «حتّى أنت يا بروتس… فليمت القيصر».
هذه العبارة حتى إن كانت تعد رمزا للخيانة فإنها لم تفارقني لحظة واحدة وأنا اقرأ «تعويبة الظل». عبارة «حتّى أنتِ يا عُمان» لم تفارق ذهني. كيف لا وهذه البلاد مرتبطة في مخيالي الشخصي وحتى مخيال الكثيرين من المحيطين بي على أنها بلد الأمن والعدل، بلد الرفاهية، بلد الشعب الذي يمتلك ضحكة سرمدية. بيد أن الواقع شيء آخر، وأن لا شيء مكتمل في هذه الحياة، إنه قانون كوني لا يمكننا تجاوزه، فحتى تلك الضحكة يبدو أن الكثير منها مغمّس في ظلال متوارية.
رواية «تعويبة الظل» للكاتب سعيد سلطان الهاشمي الصادرة بطبعتها الأولى عن دار التنوير في بيروت، نصّ انقسم إلى قسمين أو قصتين اثنتين، قصة خالد، وقصة مكتوم. معنونتان في البداية فقط بـ»بداية اسمها مكتوم» للأولى، والثانية بعنوان «نهاية اسمها خالد» ليُستعاضا بعدها أي العنوانين بالأرقام، ليتكوّن لدينا 40 جزءا كاملا بمعدّل 20 جزءا لكل قسم تمّ جدلهما بالتناوب، في نهاية النص تعود العنونة من جديد ليُختتم قسم خالد بعنوان «الزاهي» يروي حلمه الأخير، وقسم مكتوم بعنوان «مكتوم يُبعث من جديد» وفي الختام الكلي نجد ملحقا، كان عبارة عن رسالة موجهة من الباهية إلى دار التنوير.
الزمن في النص كان سيدا ذا سلطة، فقد كان شرطي الطريق الذي نظّم حركة السير بين الأقسام المتناوبة. سلطته كانت متوارية بعض الشيء في القسم الذي يتحدث فيه مكتوم. أما خالد فأجزاؤه كانت محكومة بالزمن، معروفة التاريخ الذي يدوّن دائما أعلاه، كأن الأول للنسيان والثاني للخلود، حيث تنطلق قافلة الحكي في فجر الأول من أبريل/نيسان 2011 حيث ينبهنا خالد عند تدوينه ليومياته أن التواريخ وحدها كفيلة بجمع خيوط الحكاية. الفصل الموالي يعود بنا شهرين للوراء، أي للأول من فبراير/شباط 2011 لتتوالى مصفوفة الأيام تباعا مرتبة مقسمة على الفصول حتى يوم الاثنين 14 فبراير الموافق للفصل 28، ثم تتم النقلة مباشرة ليوم الأحد 27 من الشهر نفسه، ثم يعاد سياق ترتيب الأيام حتى تحدث النقلة الأكبر، التي قاربت الشهر، فمن غرّة مارس/آذار، تم ّ القفز مباشرة ليوم 29 منه الموافق للفصل 36 ..ثم الفصل الأربعين والذي دوّن بتاريخ 31 مارس 2011 الأمر الذي كان محيّرا، والذي يمكن أن يحمل عدة تأويلات عندما يروي خالد عن موته الذي سيكون ظهر الأول من أبريل/نيسان أي قبل وقوعه بيوم.. حيث يمكن أن نعتبره حلما أوّلا متعلقا بالشاب خالد، بعد الحلم الذي سيرويه في الفصل الموالي عن خالد الطفل، ربما هي دلالة على موت البراءة والشباب معا.
التحام القصتين تم ّ في الفصل 39 حيث نجد مكتوم يحدد لنا إحداثياته الزمانية بأنه في اليوم الأول من أبريل، حينما تمّ إطلاق النار على خالد من بندقيته الآثمة. في محصلة الأمر كان الزمن اللعبة، التي خلقت متعة خاصة من متع النصّ الكثيرة، وكان أيضا عاملا مساعدا للتفريق بين القصتين.
ومن متعلقات الزمن والأسلوب أيضا يتجلى لنا أن المتن هو عبارة عن حفر في الذاكرة، واسترجاع للأحداث على صعيد القصتين معا، مكتوم يروي في سجنه لحشرة ليّنت قساوة وحدته، وخالد يروي مدونا على الورق لأن الكلام المكتوب لا يموت وبالفعل كان كذلك.
الحوارات كان مشتغلا عليها بشكل لافت، فالنص أقل ما يقال عنه إنه نصّ القضايا والأحداث المسكوت عنها، كان هناك زخم منقطع النظير في عددها. إن طرح هذه القضايا كان يحتاج لأصوات متعددة، متناظرة متعارضة، والحوارات كانت البيئة الأمثل لنقلها. اللافت قدرة الكاتب على الإتيان بالصّوت الآخر وإعطائه كامل حقه في الوجود، حيث مكّننا من رؤية الصورة الأكبر والأوضح فكل القرائن والشواهد على الطاولة مما يمكن القارئ القاضي بالخروج بالحكم الأكثر عدلا.
بالنسبة للغة، لا يسعك في الحقيقة مع لغة هذا النص إلّا أن تقف وقفة احترام وإجلال، لغة كانت بديعة محكمة، متوازنة بين العقل والعاطفة. قدرة لافتة على رسم الشخصيات، حيث نلاحظ جمالية دمج الأبعاد النفسية بالجسدية حتى تكاد ترى الشخصية وتحسّ بها. نجده يقول واصفا إحداها بقوله:
«العينان القابضتان على التماعة أبدية ضاحكة، وجهه البيضاوي يحيلك للتو إلى تلك الينابيع الدافئة الكريمة عقله المشغول بالتقصي على كل ما يبعث في مجتمعنا من سباته، كان علامة بارزة على جبهته المرفوعة دائما الممهورة بالثقة والإيمان بأن الإنسان هنا قديم قدم الهواء».
وأكثر ما ميز اللغة أيضا خفتها، فقد كانت عبارة عن جمل قصيرة، بحيث نادرا ما تجد جملة تفوق السطر، ما جعلها مثل الرصاصات الخاطفة التي تنفذ لوعيك. لقد كان الكاتب القناص الحقيقي الذي يعرف تماما كيف يصيب الهدف، فلا يكاد الملل يتسرب إلى القارئ نهائيا، من أمثلة ذلك: «الخوف من المجهول. من التغيير. من الكلام، من الأحلام، من السؤال. هناك دائما من يراقب. من يتلصص على ما يجول في جمجمتك، وما يدور في قفصك الصدري. أنت لا تعرف ما الذي يريده منك. أنت ليس مطلوبا منك أن تعرف. لماذا تريد أن تعرف؟ فبالفعل كانت مثل طلقات الرصاص المتوالية».
فيما يخصّ اللغة، في أحيان قليلة يشعر القارئ ببعض التشابه بين لغة الرّاويين، فمثلا طريقة وصفهما للشخصيات كانت واحدة وكأنهما شخص واحد. هل كان ذلك متعمداً؟ هل الأزمة واحدة وإن اختلفت المصائر والمهام؟ من يدري. الحبكة في النص لا يختلف اثنان على متانتها وترابطها. من الصعوبة أن تجد خللا رغم ألم الكتابة وتناقض شخصياتها والذي كان أمرا واضحا جليا. بكلمة، لا نملك إلا الإشادة بهذا النص البديع الذي يجعلك تعزّز إيمانك بالفن والإبداع وبالأدب والرواية بوصفها فعلاً صوت من لا صوت لهم.
كاتبة جزائرية