رواية رئاسية

يستدعي الكتاب معروضا على رفوف المكتبة الجمهور إليه، إلى طقسه، ويستدعي الطبيعة؛ الأشجار في الشارع، الغيوم العابرة، وكذلك المارة، فلا يمكن أن يكون المبنى الذي ينشر الكتب بين الناس شبيها بصرح عسكري، بما فيه من جنود وأسلحة وعتاد. سألت صديقا عن كتابه الجديد، وقال إنه صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة في العاصمة بغداد، وكي تصل المبنى الواسع، الذي يضم هذه الدار لتحصل على نسختك من الكتاب، عليك أن تجتاز طرقا وجسورا عديدة بعيدا عن مركز المدينة. السبب في اختيار هذا المكان، في رأيي، يعود إلى أن النظام السابق (1968 – 2003) كان يعد الكتاب «أداة ثورية» يمكن أن يوجهه مثل سلاح ضد أعدائه، ويكون الثمن باهظا على هيبة السلطة داخلَ العراق وخارجَه، لو أن أحدا اعتدى على مقر سلطة تأسيس الكتاب. لهذا السبب، قرر المسؤولون في ذلك العهد أن تكون دار الشؤون الثقافية (وهي الجهة الحكومية التي تصدر الكتاب الأدبي في العراق) ضائعة في منطقة سكنية في رصافة بغداد، فإذا ما تعرض المبنى إلى عمل عدائي، فبالإمكان «لفلفة» الموضوع بعيدا عن الأنظار. بينما تقع دور النشر المصرية الشهيرة كلها في شارع عام، وفي مركز المدينة، مثل الأهرام والمعارف ودار الكتب. وتعود ملكية هذه الدورِ إلى الدولة، ويبدو كل شيء فيها نظيفا وجديدا ومؤتلقا بضوء الشمس، حتى حِجاب السيدة الموظفة رمادي اللون، وابتسامتها الخجولة وهي تجيب عن سؤالك.
كانت أول زيارة لي إلى دار الشؤون الثقافية العامة عامَ 2002، وكانت قد مضت بضعة شهور على صدور رواية الصديق محمود عبد الوهاب «رغوة السحاب» وفتشت عن الكتاب في مكتبة دار الشؤون الثقافية، وعثرت عليه أخيرا بعد جهد وتعب في أحد السرادقات المسقوفة بالحديد، حيث تتكوم أكداس الكتب في ظلال حارة وخانقة، يتلفها الغبار والإهمال وعصابات الجرذان التي تتراكض بين قدميك وأنت تزور المكان، وتندفع من ورائك وأمامك. يمكننا الآن إحالة الموضوع إلى مدينة أخرى وجو سياسي وجغرافي آخر، وهي المرآة الناصعة والنظيفة، المعلقة في قصة «مكتبة بابل» لبورخيس، وكانت تضاعف الكتبَ وتمنحها إشراقا لا نهائيا. مرآة أخرى تحضر هنا، في دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، لكنها تضاعف أعدادَ القوارض التي تأتي على الكتب، كأن محرقة دائمة تتنقل بين أرجاء المكتبة ولا يراها أحد، وبعد مرور زمن سوف تأتي المحرقة على جميع المؤلفات في الدار. تروي الكاتبة الأمريكية آن فاديمان عن الناقدة ديانا تريلِنغ، أنه كان عليها غسل يديها قبل أن تتناول كتابا لمارك توين أو بلزاك من مكتبة والديها المحمية بواجهة زجاجية، بينما يموت الكتاب في دار الشؤون الثقافية ألف ميتة، ولا من مسعف، ثم عثرتُ أخيرا على رواية صديقي في مقبرة الكتب، وأخذت أقلبُ أوراقها المغبرة بالعفن الناشب في الحروف، وكان ملمس أوراقها في يدي ترابيا ومائيا بسبب تعرق كفي باستمرار في هذا الجحيم اللطيف! الكتاب يغرق في الوحل عندنا، ومع هذا يحسبه المسؤولون سلاحا ثوريا!
زرت المكان ثانية، وكانت هذه المرة بعد زوال النظام السابق، عامَ 2012، وكنتُ أخال الأمر مختلفا، لأن الأحزاب التي كانت تعارض النظام السابق هي التي صارت في الواجهة، وعليه فإن الحال يجب أن يكون مقلوبا رأسا على عقب، أي بدل المحرقة لا بد من وجود بستان ينتعش في برد نسيمه الحرف البهي. أول ما يواجهك وأنت تدخل المبنى صالة انتظار المراجعين، وكانت عبارة عن بناء شبه مظلم، والحر فيه يبلغ درجة أن كل ما فيه من أثاث وأرض بلغ نقطة السخونة، بل تعداها، وكان صديقي الذي يعمل موظفا في الدار يجلس حيث مسقط النور من النافذة القريبة، والعرق يتحدر على خديه الحليقين، ويمسحه صديقي بمنديله، كما أن هناك غمغمة مسموعة تتحول مع مرور الوقت إلى هدير كأنه لمرجل ضخم يسخن المبنى. لا وجود للطاقة الكهربائية العامة، ولا لتلك الخاصة بالدار، والتي يجهزها مولد يعمل بوقود «الديزل» فقد تم تحديد عمل هذه الآلة الجبارة في ساعات معينة يحضر فيها السيد مدير الدار إلى العمل، فلا موجب إذن لتشغيلها بقية الوقت، ثم علمتُ أن جناب المدير غائب في أغلب الأيام في سفر، وفي غيره، ويحتمل الجميع حر تموز/يوليو الذي يفطر الحائط عندنا، وغادرتُ المكان دون أن أنجز المهمة التي جئتُ لأجلها، ومررت عند خروجي بالموظفين وكانوا عالقين في أماكنهم وسط الحر مثل عناكب في شبكة من الكتب.
كما أن دار الشؤون الثقافية ليس لها أي منفذ للتوزيع في بغداد والمحافظات، ومعنى هذا أن على من يروم الحصول على كتاب أن يقصدَ هذا المبنى، وأن يضع في حسبانه تحمل الحر والعتمة في الصيف، والبرد والظلمة في الشتاء. ما الذي تبقى من رواية «القصر» لكافكا، يكتبها هذه المرة من يهتم بشغل الثقافة في عراق هذا الزمان؟ إن مدير هذا القصر الشامخ لا أحد يراه، وفي يديه مفاتيح الشغل كلها، كما أنه يحضر في ساعة لا يعرفها أو يتنبأ بها أحد، ويختفي ثانية في لمح البصر. إنه موجود وغير موجود، كائن وغير كائن، وفي خطوة ثالثة ربما صار إلها أعلى؛ لا يلد ولا يولد، إن المكتبة ودار النشر هي واجهة للأمة كلها، ويصح الكلام السابق على «المكتبة الوطنية» في بغداد، وعلى دار الكتب كذلك، والفرق أن الاثنتين تقعان في مركز المدينة، لكن حصتهما من الإهمال واحدة. في دار الكتب، وهي الخاصة بطلاب الجامعة وأصحاب البحوث والدراسات المتقدمة، لا تزال هناك شعبة – قمت بزيارتها قبل بضع سنين – تُدعى «كتب الكويت» ويُعنى بها تلك المنهوبة من الدولة الجارة في أثناء الغزو. من بين اعترافات طارق عزيز، وهو الشخص المقرب من صدام حسين وشغل منصب وزير الخارجية لعدد من السنين، قال إنه كان يزور الرئيس لمناقشة التحضيرات التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية لاحتلال العراق، لكن الرئيس كان مشغولا وقتها بموهبته التي تيقظت أخيرا في فن الرواية، وكان يُراكمُ منها الثلاث والأربع روايات، الأولى حملتْ عنوان «زبيبة والملك» والأخيرة هي «اخرج منها يا ملعون» وهناك روايتان لا أتذكر اسميهما. يدور حوار في رواية صدام حسين الأخيرة بين (صباح) و(كامل): «لقد نِلتُ كفايتي منك، وكذلك إخواني وأبناء عمي وعشيرتي، وكذلك كل شخص عرفك داخلَ العراق وخارجَه. لقد فكرتُ في الأمر مليا. أريدك أن ترحل من هنا. هذه الليلة. هذه الدقيقة. الآن. اللعنة! اخرج من هنا الآن!». هل كانت نبوءة أن الرجل يرى مصيره في عالم السياسة بواسطة مرآة الأدب السحرية؟ لا أريد هنا إعطاء رأيٍ نقدي عن «أدب صدام حسين الروائي» لكنني أريد أن أعود بكم إلى عام 2000، وكان اجتماعا في أحد القصور الرئاسية في بغداد، وجمع الرئيس حوله كتاب القصة والرواية المشهورين في البلاد، وظل يقول لهم كلاما لمدة ساعة تقريبا في ما يخص الإبداع والقوة والنصر والظفر، وطلب منهم في الأخير أن يكون اجتماعهم في مثل هذا اليوم من العام المقبل، وفي يمين كل منهم رواية مطبوعة وكاملة.
أنجز الجميع ما أمرهم به الرئيس، وصار اسم هذا العمل موحدا بين الأدباء بعد ذلك، وللتعريف والتذكير، وبنوع من السخرية المرة «رواية رئاسية». هل كان الرئيس العراقي يتبارى مع معمر القذافي في ميدان فن القص، لأن الثاني كتب القصة القصيرة، فإن الأول (ينبغي أن) يكون متفوقا عليه، فيكتب بدل القصة رواية – كان صدام حسين يُكثر في حديثه من الفعل الذي جعلته مقوسا – كما أن القصة القصيرة في بدء نشأتها كانت تُدعى بين النقاد «القصةَ الصغيرةَ» والرئيس لا يريد أن يكون من صفاته وأسمائه وألقابه غير السعة والضخامة والكِبر، حتى في ميدان الكتابة. حصل الأدباء أصحاب الرواية الرئاسية على مكافآت نقدية في نهاية الأمر، لكن أعمالهم طواها النسيان مباشرة عقب صدورها، فلم أسمع عن كاتب لمع من بين كتبه اسم الرواية التي كتبها في تلك الظروف، فالأدب ثمَر طبيعي لا ينضج تحت ظروف التهديد والوعيد، ولا نعرف إلى الآن نوع العقاب في ذهن الرئيس الراحل لمن لا ينصاع من الأدباء لأوامره، لكن الجميع قدموا في نهاية السنة روايات ضاقت بها دار الشؤون الثقافية، فتكدست في مخازنها في ظروف شرحتها في بداية المقال، وكانت «رغوة السحاب» لمحمود عبد الوهاب إحدى تلك الروايات الرئاسية.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية