لا حدود لأرض التخييل السردي، فبوسعه اجتياح جوانب مختلفة من الحياة الإنسانية ـ ظاهرة وخفية، قديمة ومعاصرة. فالعقل التخييلي الروائي يدخل البيوت والمقاهي والأحياء والأزقة والمدن والقرى ويلتقط منها عوالم مختلفة تجمع بين الوهم والتسجيل. وهو أيضا يقتحم أرض العجيب والغريب. ولعل من مظاهر ذلك سرد عوالم المقامات الصوفية وما يدور حولها من كرامات وأسرار. وهو ما جلب انتباه العديد من الروائيين، على غرار الطاهر وطار في رواياته عن «الولي الطاهر» وعبد الحميد بن هدوقة في «الجازية والدراويش» ومحمد الباردي في روايته «ديوان المواجع» وغير ذلك من التجارب. فعوالم الصوفيين ومقاماتهم صارت جاذبة للرواية العربية المعاصرة، فاتحة الباب على متخيل صوفي غير متناه من الطقوس والحكايات التي تتوارثها الأجيال.
ولعل تجربة الكاتبة فتحية بن فرج في روايتها «رتيلاء ساكنة الغار» تدخل في هذا المضمار، فهي كتابة من داخل النسق الصوفي، لغة وتخيلا وتصورا وفضاء بل ونمط شخصيات. فالكاتبة تحاول أن تقترب من هذه التجربة وتعطي المجال لشخصياتها لسردها بلغتهم ومواقفهم، فيمتزج هذا السرد الصوفي بالخطاب اليومي. ونقرأ في الرواية الكثير عن طقوس المريدين وثقافتهم وسردياتهم الخاصة.
الطقوس
تبدو عملية تخييل الصوفي مستندة في جانب منها إلى المرجعي، وهو ما كان له وجود أو متداول في المخيال الشعبي. من هنا تنطلق الكاتبة محتفية في الحقيقة بقبيلة الربايع في الجنوب التونسي وفي تطاوين تحديدا، وهي تنتسب إلى هذه القبيلة وتراثها المحلي. وتختار لروايتها فضاء مركزيا مرجعيا، هو فضاء سيدي التوي الصالح المعروف هناك، وتختار أيضا شخصية الولية صاحبة الكرامات من هذا الواقع المرجعي ومن الثقافة الشعبية السائدة. وتبدو الرواية في هذا المستوى كتابة لطقوس هذه المقامات. فهي رواية الخطاب الصوفي. ويتعمق هذا المناخ الصوفي المرجعي بذكر أشعار الصوفيين وأهازيجهم في جلساتهم وطقوسهم عبر نصوص مأثورة. وتنشر الكاتبة في هذا المجال أن كل مقاطع الإنشاد المدرجة في هذه الرواية هي من التراث الشفوي المسموع والمتداول في حلقات الذّكر ومجالس حضرة أبناء عرش الربايع في البلاد التونسية. وهي تعبر عن طقوس الخطاب الصوفي القائمة على شكر الولي صاحب الكرامة والشكوى إليه والوعد بالاحتفال به.
تصل إلى أسماعنا أصوات المريدين وهي تنشد وتتقرب من سيدها، تستعطفه وتدعوه لخدمتها. ولعل هذه الأبيات الشعرية تحمل الكثير من خصائص الفكر الصوفي ومسلماته. هكذا يقبع الصوفي منشدا صارخا مناديا وليه الصالح، مستغيثا:
« يا سيدي يا مولى الهيلة
عمرك ولا بطيت عليا
وين نناديك تفز عليا…»
يشكل هذا النشيد معاني الخضوع والولاء والقناعة التامة بقدرة الولي على الحضور الفوري
وتحقيق المطلوب من الأمنيات. ولا يخلو هذا الفكر من عقيدة رد الجميل للولي وهي عادة تقوم على ذبح ضحية تسمى «وعدة» وإقامة وليمة تسمى «زردة». وهي طقوس احتفالية وهو ما يبدو في هذا المقطع الذي يردده المريدون:
« يا سيدي يا مولى البردة
نعملك ميات زردة وزردة
الزردة ديما والوعدة
وصي خدامك علي..»
في ظل هذه المناخات والطقوس والشطحات الصوفية تقتحم الكاتبة هذا العالم الصوفي
وتستفيد من ثقافته الخاصة وتصوّر أجواءه على طريقتها. فإذا نحن أمام شخصية ساكنة الغار الولية الصالحة وحكايتها العجائبية، وأمام كرامات كثيرة تشهدها الرواية. وإذا الرواية توثق سرديات المريدين.
سرديات المريدين
لا يقتصر الأمر على كتابة الطقوس، لكنه يمتد إلى ما يردده المخيال الشعبي عن خوارق هذه الشخصيات وعجائبيتها. ففي مقام سيدي التوي تقول النساء «إن يدا خفية تنزل إلى القدور والأطعمة فتباركها وتزكيها» و»أما البئر فقد امتلأت على حين غفلة بماء زلال» «هكذا فجأة فاضت البئر فهب الناس إلى شرشرة المياه يباركون ويهللون ويصلون على النبي ويباهون ببركات جدهم سيدي التوي. وسيدي التوي يفزع لأبنائه وسلالته أينما كانوا يخدمهم بأمانة، يحضر إليهم بنفسه، أو يرسل إليهم خدامه».
في هذا المناخ العجائبي مناخ ترديد حكايات المخيال الشعبي وما يردد من خوارق تظهر ابتلاء ساكنة الغار وقد هب الجد الأكبر لنجدتها وأسكنها الغار. فإذا بها ذات قوة خيالية. «برزت قليلا من فم الغار وهي تزحف كشفت الموقع ببريق الجوهر المنبعث من عينيها… ثم خطر لها أن تحفر في الصخر…القوة في ذراعها جبارة هكذا استشعرت قوة هلامية. مدت يديها.. فيها أذرع إضافية فإذا هما سبع أذرع زيادة عن ذراعها».
تنشد هذه الرواية إلى المخيال الشعبي والطقوس الصوفية المختلفة ومن بينها طقوس السرد الشفوي الجماعي، أو لنقل طقوس سرد الجماعة. وهو ما يفتح الباب أكثر للحديث عن تفاعل الرواية مع التراث السردي والشعبي، من خلال صوت الراوي الشفوي. هكذا تظهر منذ الأسطر الأولى تلك اللازمة التي تتكرر في مجالس الحكي. «يا سادة يا مادة يدلنا ويدلكم للخير والشهادة. هكذا يخاطب الحكواني/ الراوي الشفوي المجموعة فيتأهبون لسماعة ويعرفون أن الحكاية ابتدأت.
« ازداد اهتمام الجماعة بالبداية فبدأت الحركة وختمت الشفاه وشنفت الأسماع فاستزاد» هكذا يبدو الحاكي الصوفي صارما، من لا يعقد النية من بركتنا لا يجلس في مجلسنا.
وهكذا يمكن القول إن «رتيلاء ساكنة الغار» رواية ذات صلة بالمقامات الصوفية وبالثقافة المحلية ولعلها ترحل بنا إلى الأعماق التي تتلاشى في الذاكرة الآن، معيدة تصوير هذا التراث الذي عرف ازدهارا في محطات خاصة من تاريخ المجتمع.
كاتب تونسي