إذا كان تسرّب شذرات من السيرة الذاتية للروائي إلى روايته لا ينتقص من روائيتها، بل يوهم بمزيد من الواقعية، فإنّ طغيان الذاتية عليها لا يجعل منها، بطبيعة الحال، سيرة ذاتية، لاسيما حين يتمّ توزيع المادة السِّيَرِيَّة على النص بشكل روائي يكسر النمطية الخطية للسيرة، ولا يسمّي جميع الأشياء بأسمائها، ويُخضِع توزيعها لمقتضيات الفن الروائي. وفي هذه الحالة، نكون إزاء رواية سِيَرِيَّة، تتخذ من وقائع السيرة الذاتية مادة أولية لها وتعيد تشكيلها في مختبرات السرد الروائي، وهو ما ينطبق على «زهر القطن» الرواية العاشرة للروائي والطبيب والرحالة السوري خليل النعيمي، الصادرة مؤخراً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت، ذلك أن خليل النعيمي يتّخذ من حياته موضوعاً لروايته، ويجعل من نفسه بطلاً لها. وهذا ما نستنتجه من نقاط التقاطع الكثيرة بين الروائي والمروي عنه؛ فكلاهما ولد في بادية الشام، وترحّل في سهوبها الواسعة، ودرس الطب والفلسفة في دمشق، وهاجر إلى ما وراء البحار، على سبيل الذكر لا الحصر.
العنوان والمتن
بمعزل عن التصنيف الأجناسي للنص، يشي العنوان «زهر القطن» بالفضاء المكاني للأحداث، ويحيل إلى منطقة الجزيرة السورية، حيث تزدهر زراعة القطن، ويلمح إلى الفضاء الاجتماعي البدوي الزراعي. على أن مدلولات العنوان تتعدّد في المتن النصي، وتتراوح بين بياض اللون ونعومة الملمس، وبياض اللون وحده، ونصاعة الثلج ونعومة الحرير، ومصدر السعادة وموئل الأسرار، ما يدعو إلى الاستنتاج أن ثمة مفارقة بين مدلولات العنوان التي تتمحور حول رهف العيش ونقائه ونعومته، ومجريات الأحداث في المتن وما تعبّر عنه من شظف العيش وقسوته وخشونته. ويطرح مدى ملاءمة العنوان للمتن.
البادية والبحر
بين البادية والبحر تمتد الرواية، وتواكب رحلة البطل بين المكانين، مذ كان طفلاً يدبي على رمال البادية السورية، حتّى ولوجه الباخرة التي ستبحر به من مرفأ بيروت أوائل السبعينيات من القرن الماضي. وتتمحور الأحداث في هذه الرحلة حول شخصيتين محوريتين؛ شخصية الأب في النصف الأول من الرواية، وشخصية الابن، بطل الرواية، في النصف الثاني منها، وتحف بهما شخصيات هامشية تلعب أدواراً مكمّلة لهما. ومن خلال هذا التمحور، نقع على نمط العيش في البادية السورية، في الستينيات من القرن الماضي، ونمط العيش في دمشق في السبعينيات منه، وما يكتنف كلاًّ من النمطين من سلبيات وإيجابيات.
قتل الأب
بالعودة إلى مجرى الأحداث، تشكّل شخصية الأب التي تشغل النصف الأول من الرواية ممراًّ إلزامياًّ إلى شخصية الابن، بطل الرواية وصاحب السيرة، فنتعرّف إليه يتيمًا أعزل يخوض صراع البقاء في الصحراء. يأخذ عن أحيائها الصغار القدرة على التكيف مع مشاق الحياة وشظف العيش وانعدام الموارد، فيتعلم الصمت والتختّل من القنافذ، والبصيرة من الخلد، والمشي بلا أقدام من حيات الرمل، على سبيل الذكر لا الحصر. يأكل الجرابيع ويتسوّل الطعام ويتوخى الحذر، ويَدين ليديه ورجليه في البقاء على قيد الحياة، حتى ليشكل عثوره على الكمأ طعاما لذيذا لابنه الجائع حدثا يبكيه. ومع هذا، لا يفقد الأمل في المستقبل، وينتظر شيئا ما لا يعرف ما هو، ويثق بقدرته على تجاوز الواقع.
في مواجهة الواقع ووقائعه القاسية، ثمّة وقائع أخرى تخفّف من قسوة الحاضر، وتفتح المستقبل على إمكانات واعدة؛ ومنها: حكي الحكايات في الخيمة الكبيرة ما يرطّب جفاف الفضاء الصحراوي. وجود زوجة ذكية، حادة الملاحظة، مرهفة الحس والحدس، تؤثر التلميح على التصريح، إلى جانبه. مغامرات ليلية يقوم بها بين فترة وأخرى. ولد ذكي يتعلّق به، ويواكبه في حلّه وترحاله، ويصغي إلى حكاياته ويحفظها عن ظهر قلب، ويتأثر بشخصيته المنطوية على أسرارها، ويعد بمستقبل مشرق. وهذه الوقائع تمنحه القدرة على الاستمرار في فضاء بدوي صحراوي، وتحمّل نمط العيش فيها بما يكتنفه من فقر وجوع ووحشة وندرة. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الشخصية تأثيرها العميق في الابن الذي لم يقتل أباه، بالمعنى الفرويدي للكلمة، بل يستمد منه القدرة على الاستمرار والتطور حتى تحقيق ما زرعه فيه الأب ويصبو إليه هو من أهداف. وبذلك، يقتل أباه بتجاوزه وليس بالانقلاب عليه. وبهذا المعنى، يصبح «قتل الأب» أمرا مرغوبا فيه، بل واجبا على الابن لتحقيق أحلام أبيه.
بالعودة إلى بطل الرواية وصاحب السيرة، تبدو عليه أمارات النباهة ومخايل الذكاء، منذ نعومة أظفاره؛ فيتعلّق بأبيه ويلازمه في التعاليل الليلية في الخيمة الكبيرة، ويأخذ عنه الكثير من دروس الحياة، ويعجب بقيادته الحكي وتوجيه صارية الحديث، ويريد أن يتكلّم مثله وأن يتعلّم في المدرسة تحقيقا لهذا الهدف، وعملاً بقول الأب: «من أراد أن يتكلّم، عليه أن يتعلّم». ناهيك من الدروس التي يتعلّمها الصبي من الصحراء، حيث «المعرفة في الحَماد ملقاة على وجه القاع».
محطات الرحلة
وتحقيقا للهدف الذي يزرعه الأب في رأس ابنه، يأخذ به إلى معلّم للقرآن الكريم في البادية، حتى إذا ما حفظه، تبدأ «رحلة قاسية وسعيدة نحو المجهول» يكون على الصبي أن يقوم بها، ويكون على الأسرة أن تواكبه في هذه الرحلة. وهنا، يمكن القول إن الرواية في نصفها الثاني، على الأقل، هي سيرة الروائي/ البطل التعلّمية، في محطاتها المختلفة. والمفارق فيها أن يقوم أبٌ بدوي يعيش البداوة في بادية معزولة، لا وجود لمدارس فيها، بزرع هدف الذهاب إلى المدرسة في رأس ابنه الصغير، وأن يتخلّى عن نمط العيش البدوي لينخرط في آخر زراعي، في سبيل مواكبته في رحلته التعلّمية. وهي مفارقة قد تنتقص من واقعية الأحداث لكنّ لكلِّ قاعدة شواذها.
المدرسة الابتدائية
كثيرة هي المحطات التي يتوقف عندها الصبي في رحلته التعلّمية، ولكلٍّ منها دروسها وآفاقها، وحسبنا الوقوف عند ثلاث منها؛ المحطة الأولى في هذه الرحلة تكون في مدرسة «السنجق» الابتدائية، وتدشّن «مسارا عسيرا في حياته لم يعرفه أحد من أهله». وفي هذه المحطة، تنتقل الأسرة من البادية إلى أعالي الجزيرة وتنصب خيمتها السوداء في قرية «كر خالد» الكردية الصغيرة، ويكون على الصبي أن يمشي عدة كيلومترات يوميّا ليصل إلى مدرسته. وفيها تتفتح عيناه على ألوان ومشاهد ونباتات وروائح ومشاعر جديدة لم تكن البيئة البدوية المحدودة لتتيحها له، ويفاجئ معلّمه بقوة ذاكرته وسرعة حفظه وإتقانه العلامات المكتوبة. ويتوّج هذه المرحلة بخضوعه لامتحانات الشهادة الابتدائية في «الدرباسية» ونجاحه فيها.
المدرسة الكبرى
وتكون المحطة الثانية في «الحسكة» فيلتحق بمدرسة التجهيز الكبرى، بفضل جهده الخارق ودعم والديه، لمتابعة المرحلتين الإعدادية والثانوية. وفي هذه المحطة، يقيم في «كوخ سحري» على طرف المدينة، وتنفتح عيناه على سهل ساحر، ويصادق الديك ودجاجات الكوخ ويلقي على مسامعها قصائده الأولى، ويشترك في التظاهرات الطلابية في سنوات الحرية التي لم تدم طويلاً، ويعود في العطل الصيفية إلى أهله، على ضفاف نهر الخابور، ويعمل في تحويش القطن، ويعيش علاقته الغرامية الأولى مع إحدى الحوّاشات.
الخليط الإنساني
على أن المحطة الأهم، في هذه الرحلة، هي المحطة الثالثة والأخيرة، وبها تشارف تحولاته الاكتمال، وتكون في دمشق التي ينتقل إليها لمتابعة دراسته الجامعية، فيقيم في دار صغيرة من الطين في بستان، عند طرفها الغربي، مقابل حراسة أشجاره المثمرة. وتُعتبَر هذه المحطة التحول الأبرز في حياة صاحب السيرة، لاسيما في التحاقه بجامعة دمشق، «ذلك الخليط الإنساني المثير والمفجّر للأحاسيس» ما يفتح أمامه أبواب الطب والفلسفة والقراءة والكتابة والرواية والمرأة والجسد والرغبة والجمال، ويشكّل تتويجا للتحولات المختلفة التي عرفها. وبهذا الانتقال التدريجي من البادية إلى المدينة، يكتشف البطل أن العالم الدمشقي عمودي، متعدّد، مرتب، قريب وصعب، خلافا لعالم البادية المسطح، الأفقي، الأحادي، والمتشابه.
التحّول الأخير
غير أن التحولات التي تطرأ على المدينة، أوائل السبعينيات، «فتغرق في دوامة مخيفة من التسلط الممنهج والقمع البذيء» تحدث التحوّل الأخير في حياة صاحب السيرة، وهو تحوّل لم ترهص به الأحداث السابقة، فيشكل استدعاؤه للتحقيق أمام لجنة عسكرية، على خلفية إصداره مجموعة شعرية حمّالة أوجه، القشّة التي تقصم ظهر البعير، يغادر خلسة إلى بيروت، ومنها إلى ما وراء البحار. وبذلك، يتحوّل الطفل البدوي الذي كان يجوب القفار مع ذويه، بحثًا عن حياة أفضل، إلى رحالة مدني يجوب البحار. ونكون إزاء سيرة غير مكتملة، مصوغة في قالب روائي، فهل يكون لهذه الرواية السيرية ما بعدها؟
كاتب لبناني
لأوّل مرّة أقرأ عرضًا فنيًّا لرواية لم أقرأها؛ كأنّني قرأتها من الغلاف إلى الغلاف.ولا مبالغة القول إنّ العرض سما إلى مستوى روائيّ لما بعد السطر الأخير للرواية؛ فلو كان العارض كاتب الرّواية نفسه لما أضاف المزيد… فكان عرض ( سلمان ) لها بمثابة الجناحين للتحليق ؛ لا مجرد التعليق.وكان نصّ ( خليل ) الريح التي رفعت الجناحين إلى ( التصفيق ).ونحن كذلك نصفّق…فتحوّلت الرّواية إلى ( طائرة ) انطلقت من كر خالد إلى الحسكة إلى دمشق.ولا تزال في التحليق…
دائمًا تغمرني بتعليقاتك الجميلة، والقراءة الجميلة هي الجناح الآخر للكتابة الجميلة، وكلا الجناحين ضروري للتحليق. وكلاهما يحتاج إلى ريح مؤاتية. مع المودة والتقدير.
مقاله راءعه للسيد سلمان زين الدين حول هذه الروايه المهمه التي تاخذنا إلى الجزيره السوريه المنسيه من زمن بعيد رغم اهميه المنطقه في بلاد الرافدين
حياك الله وحيا كاتب الروايه خليل النعيمي ابن الجزيره واول من كتب عنها فاخرجها من طيات النسيان