مثلما أوضحنا في القراءة السابقة إن الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل كان مجددا ومجربا باستخدامه ضمير المخاطب وغيره من التقنيات التي لا يتسع المقام لذكرها، كالتناص بروايته «في حضرة العنقاء والخل الوفي»، نجد ان سعود السنعوسي قام بعملية بحث وتطوير لعمله السردي من عدة جوانب من حيث اختيار الموضوع المبتكر ومن حيث التقنية، والسفر إلى بيئة العمل السردي الفلبين، لينقل واقع المكان بمصداقية وشفافية، وليتمكن من تمثيل المكان بالشكل المناسب من دون مغالطة في التفاصيل السردية. فكان من المؤمنين بأهمية البحث كرديف للتجديد فـ»بدون بحث لا يوجد تجريب» «فالبحث هو الذي يحفز الكاتب الروائي إلى تجاوز الأشكال المستهلكة والعميقة، وإلى تجريب أدوات جديدة وخلق أشكال حية»(1) ترتبط بنيويا وفكرة ومضمون الحكاية، وإلا كانت هناك مفارقة بين الشكل والمضمون. وهذا ما نتمنى أن تتخلص منه النصوص الإبداعية العربية.
فبطريقة مبتكرة الكاتب ينقلنا من عالم سردي تقليدي في الرواية الكويتية إلى عالم آخر مغاير ومجدد يحاول البعد عن ضفاف المألوف من خلال تقديم عالم روايته «ساق البامبو» (الهامة في قراءة أنساق المجتمع الكويتي المسيطرة عليه والمؤثرة على هويته بشكل مفصلي) عن طريق فكرة الترجمة وهي إن لم تكن جديدة تماما إلا إنها أضافت ندرة نوعية على مستوى السرد العربي. فبعد رواية فواز حداد «المترجم الخائن» التي انطلقت من فكرة الترجمة لأعمال أدبية غربية يتدخل المترجم/ السارد فيها ويغير من محتواها توافقا لمواقفه الخاصة بالحياة، تأتي «ساق البامبو» على شكل مذكرات شخصية مشكلة رواية سيرة ذاتية لهوزيه ميندورا أو عيسى راشد الطاروف مترجمة من اللغة الفلبينية إلى اللغة العربية عن طريق مترجمها إبراهيم سلام ومراجعتها ومدققتها خولة راشد.
سأقف هنا في هذه القراءة عند مفهوم الهجنة في الرواية وتوافق الشكل وهوية السارد هوزيه/ عيسى.
تعكس فكرة الترجمة هجنة الشكل الأدبي المترجم. فالترجمة تعني الوقوع بين نصين وفضائين ثقافين، كما تكون نصا وسيطا وجسرا عابرا بين ثقافتين. فالنص السردي هنا هو خليط بين محتوى فلبيني وكويتي مفترضين، مكتوب بلغة فلبينية منقولة عبر الترجمة إلى العربية، وهي عربية الشكل و فلبينية / كويتية المضمون شكلت نصا هجينيا متوسط بينهما يعبر عن هجنة السارد. فـ «النص الهجين، وفق Christina Schaner and Beverly Adab هو النص الناتج عن عملية الترجمة، وتعرض لبعض الأشياء الغريبة، وغير المألوفة، وخارج مكانها».(2):
كما تثير فكرة الترجمة إشكالية عدم القدرة على الكتابة بالعربية من مواطن عربي مفترض. مما يعني ان اللغة الأم والانتماء الأصيل لديه والذي وجد نفسه متسقا معه وناميا في أجوائه هي اللغة الفلبينية لأنها اللغة التي نشأ بها في طفولته مع سلسلة متوالية من مكونات انتماء الفرد كالمكان والمجتمع الحاضن له الذي استطاع أن يستقر فيه وينجب ويؤثث فضاء الانتماء إليه والذي قد يكون الأكثر استيعابا له بعد أن أخفق أن يكون كويتيا حقيقيا، وليتخلص من الماضي ويتحرر من سطوته بالكتابة عنه وعرضه للأخرين، فكانت ذاكرته حملا ثقيلا يحتاج إلى تفريغ وتطهير، وكوسيلة للتواصل مع مجتمع لم يستطع البطل التعايش فيه ومعه، فآثر أن يكتب عنه من بعيد برؤية للمجتمع من خارجه بعين البطل الإشكالي الهجين الذي يريد أن يتواصل مع وطنه ولو عبر الترجمة بوصفها السبيل الأخير للتواصل مع مجتمع يرفض حضوره الجسدي كسيمياء للعار والفضيحة الاجتماعية.
كما أتى هذا السارد بشكله الهجين وصوته ممثلا هجنة أخرى (يحمل ملامح أمه وصوت أبيه، (ولنلاحظ دلالة الصوت هنا كعلامة هامة وملحة في نقل الحكاية الشفهية ومن ثم تحريرها)، لينقل هذه الحكاية عبر الكتابة ولو بصيغة مذكرات مترجمة، تتوسل ضمنيا إتمام مذكرات الأب التي كتبها ولم يتمها ولم ينشرها. إضافة إلى إن الرؤية والتمثيل عن طريق الترجمة عبرت عن قلق كبير في الهوية منظورا إليه من ضفة أخرى، ومن إدراك مغاير هو من وجهة نظر نصف فلبينية. فكم أفلح الكاتب في إبعاد نفسه عن المجتمع، ظاهريا، لكي يرصد تصورات الآخر وإدراكه لصورة المجتمع الكويتي بكامل تناقضاته وتراوحاته بين الإيجابي والسلبي، راصدا لاختلاف المجتمع وانحرافه عما توقعه وهو في فضائه الأول (الفلبين) الذي نشأ به من انه مجتمع مثالي يبعث السعادة لمن يعيش به، رغم إدراكنا كقراء إنه في النهاية قدم وجهة نظر عربية كويتية خالصة مقدمة عبر كاتبها المؤلف الكويتي.
لذا كانت الترجمة للمذكرات متماشية مع فكرة تركه للمجتمع الكويتي واستقراره في الفلبين وكتابته للمذكرات باللغة الفلبينية كعلامة انتماء لهذا الفضاء وتوسله إلى الدخول إلى أحد انتماءاته المتصالحة والمتعايشة مع بعضها، الكويت.
هذا الشكل السردي الهجين كان علامة دالة لهجنة الشخصية ذاتها غير قابلة للفصل وللانقسام على انتماء واحد فمن الصعب نسبه إلى انتماء واحد مكونا بذلك فكرة الفضاء الثالث عند المفكر الهندي هومي بابا أحد أقطاب نظرية مابعد الاستعمار الهامة في التعبير عن الهويات الناشئة بين فضائين مكونة مفهموم الهجنة والخليط، بصورتها السلبية غير متصالحة والإيجابية متصالحة ومتعايشة مثلما رأينا هذا التصالح عند كل من ادوارد سعيد ومحمود درويش أبرز ما يكون في قصيدة «طباق لإدوارد سعيد»، وأمين معلوف في كتاب «الهويات القاتلة» أبرز صورة لهذه الهجنة الحميدة.
وهذا ما كان عليه حال هوزيه/ عيسى الذي ينتقي بنهاية العمل التصالح بين هذين الفضاءين، مكونا معالم هوية هجينية ثالثة ليست خالصة الانتماء لمكون واحد وفضاء فيما يلي عرض لأهم أشكالها:
تبدأ إشكالية هجنة السارد من الأسماء إذ تكشف بوصفها دوالا عن مدلولات مفهوم الهجنة المتكشفة طوال السرد عن هجنته غير المتصالحة في بداية الرواية كما يقول:
« أما هنا، فإن أول ما افتقدته هو ذلك اللقب إلى جانب ألقابي وأسمائي الأخرى، لأكتسب لاحقا لقبا جديدا ضمته الظروف إلى جملة ألقابي، وكان ذلك اللقب هو .. الفلبيني. لو كنت فلبينيا هناك.. أو هنا .. لو تنفع كلمة لو.. أو.. ليس هذا ضروريا الآن». (الرواية، ص 18)
بعد المرور بمحاولات تجريبية عدة في الانتماءات للمكانين الفلبيني والكويتي والديانات التي حاول ان يجد نفسه في واحدة منها المسيحية والإسلامية فاستقر في النهاية على الدين الإسلامي.
كما ان لديه هجنة لغوية جمعت بين ما هو عربي وفلبيني.
و هجنة جينية ورثها عن والديه وصدرها لابنه فهو نصف كويتي تزوج نصف فلبينية وأوربية، وأنجب ولدا (أسماه راشد) يحمل سيمياء عربية: «ولدي الذي توقعت أن يأتي بعينين زرقاوين وببشرة بيضاء جاء بملامح مغايرة.. بسمرة عربية، وعينين واسعتين تشبهان عيني عمته.. خولة» (الرواية، ص 395).
من الواضح جدا من خلال عرض الرواية إن هوية السارد مرت بمراحل هويات متعددة في كل فترة تعكس لوجه من وجوه هذه الهوية الجامعة بين الأضداد، فهوية السارد لم تكن ثابتة بل متحولة ومتطورة ومرت بعدة تحولات، صاغت بالنهاية هذا التصالح بين الانتماءات المتعددة فخرجت شخصية هوزيه/ عيسى المتعايشة بين هاذين العالمين بإيجابية، لأنه ليس مثل ساق البامبو تغرس في أي مكان وتنمو.
ناقدة وكاتبة كويتية.
Su_ad81@
[email protected]
سعود السنعوسي، رواية «ساق البامبو»، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى، 2012م.
مقتبس من بحث للمؤلفين بالانكليزية بعنوان: « فكرة النص الهجيني في الترجمة: التوصل بوصفه صراعا».
د. بوشوشة بن جمعة، «سردية التجريب وحداثة السردية في الرواية العربية الجزائرية، المغاربية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2005م.
سعاد العنزي
…لفتة رائعة …أعتقد أن_ وربما أكون مخطئاً في ذلك _…ملاحظتي على المقال السابق قد استوقفتك …خاصة وأن اللجوء إلى اللعبة الفنية : لعبة الترجمة أصبحت من الظواهر التي لا تكاد تخفى على أحد في الرواية العربية الحديثة
طرح راقي وأسلوب جميل ويعطيك العافيه……