رواية شعبوية عربية لمعركة تركية: أيام الله في جناق قلعة… أم أيام أتاتورك والألمان؟

حجم الخط
9

تحتفل تركيا في مثل هذه الايام من كل عام بذكرى معركة «جناق قلعة» التاريخية، المعركة التي صدّ فيها الأتراك قوات التحالف المكونة من قوات بريطانية وأسترالية وفرنسية الساعية عام 1915 للسيطرة على مضيق الدردنيل، وهو الخاصرة البحرية للعاصمة إسطنبول، وتعتبر هذه المعركة أولى الانتصارات الشهيرة لمؤسس الجمهورية أتاتورك، الذي قاد المرحلة الحاسمة والنهائية من تلك المواجهة المعروفة باسم «أنتفارتلار» إذ أطلقت عليه الصحف التركية آنذاك لقب «بطل الدردنيل» و»حامي إسطنبول» وأقيم له تمثال كبير قرب تلة شونك بيري، التي شهدت آخر فصول المعركة، وحتى اليوم تتصدر صور أتاتورك ذكرى المعركة، عند الحديث عنها في الإعلام التركي.
كان جيش الدولة العثمانية عام 1915 بقيادة ضباط الاتحاد والترقي، الذين بدأوا بالسيطرة على الدولة العثمانية بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1908، وخلال الحرب العالمية الأولى التي امتدت من 1914 إلى 1918، كان الجيش والسلطة بالكامل بيد الاتحاديين المعروفين بميولهم القومية التركية التي أغضبت العرب فثاروا عليهم.
الاتحاديون تحالفوا مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم قاد الضباط الألمان أهم قطعات الجيش العثماني، ومنها تلك التي كانت تقاتل في جناق قلعة، فكان الألماني ليمان ساندرز هو قائد الجيش الخامس المسؤول عن الجبهة في جناق قلعة، وتحت قيادته عدة فرق وفيالق أهمها، الفيلق الثالثة بقيادة محمد أسعد باشا، والفرقة التاسعة عشرة احتياط بقيادة أتاتورك، الذي كان غير محبوب من وزير الحربية الاتحادي أنور باشا، والفيلق التاسع بقيادة الألماني كانينسيجر، وفي الفترة الحاسمة من المعركة، التي استمرت شهورا طويلة، جمعت قيادة كل الفرق لأتاتورك، بأمر من الألماني ليمان ساندرز، وسميت هذه المرحلة بجبهة «انتفارتلار». وأخذ أتاتورك شهرته من خلال نجاحه في الدفاع عن قمتي جبلين استراتيجيين في الدردنيل، هما كوجه شيمين وشونك بايري، لمنع سقوط هضبة «كيتيلباهير» المطلة مباشرة على المضيق. إذن فانتصار جناق قلعة، كان في عهد حكومة الاتحاد والترقي القومية، ووزارة الحربية العثمانية كانت بإمرة الضابط الاتحادي أنور باشا، وجبهة جناق قلعة كان أبرز قادتها أتاتورك، وقائد الجبهة العام هو الألماني ساندرز، أما الجنود الذين لا يكاد يذكرهم أحد فتتحدث المصادر عن أن نحو نصفهم كانوا من العرب، لأن الجيش الخامس، شُكّل بعد إقرار التجنيد الإلزامي منتصف القرن التاسع عشر، فجند الآلاف من بلاد الشام، وتحديدا حلب بهذا الجيش، تحت قيادة قائده الألماني، بينما كان أقرانهم وإخوانهم العرب يعيشون حالة من صعود الشعور القومي المناوئ للسلطة العثمانية، بسبب سياسات الاتحاد والترقي، وقمع قادته كجمال باشا السفاح في سوريا، والمشانق الشهيرة التي علقت في ساحات بيروت ودمشق.
إذن كان معظم جنود فرقة أتاتورك التاسعة عشرة من العرب، ويقول المورخ البريطاني الذي كان دبلوماسيا لبلاده في إسطنبول خلال الحرب أرمسترونج، إن أتاتورك درّب العرب على القتال فأصبحوا من خيرة المقاتلين، وساهموا كجنود في تحقيق هذا النصر، ومع ذلك فالعرب بالتثقيف التركي الرسمي هم خونة للدولة العثمانية، متجاهلين الدماء العربية التي سالت على أرض جناق قلعة، وهذا مفهوم فالجيش بقائده، لذلك كل تضحيات العرب لم تسجل لصالح بلدانهم، بل لمصلحة تركيا، ولحكومة حزب الاتحاد والترقي القومي، ومع ذلك بدأت تصدر كتب وطروحات تشيد بالعرب ودورهم في جناق قلعة، من قبل بعض الكتاب الأتراك الإسلاميين. نعود لمرحلة الحرب العالمية الأولى، بفعل سوء إدارة حزب الاتحاد والترقي للتحالفات، وزج بلاده مع الطرف الخاسر في الحرب العالمية الأولى، خسرت تركيا العاصمة إسطنبول بعد معركة جناق قلعة بثلاث سنوات فقط، أمام الدول الغربية نفسها، التي احتلت العاصمة لخمس سنوات متتالية.

كل تضحيات العرب لم تسجل لصالح بلدانهم، بل لمصلحة تركيا، ولحكومة حزب الاتحاد والترقي القومي

هذه هي الحقائق بمعركة جناق قلعة، أما الإعلام العربي، وبعض الخطباء العرب الشعبويين المتحمسين للأمثولة الإسلاموية، ومنهم أساتذة جامعيون في التاريخ والسياسة، وليس لهم نصيب منها سوى الجعجعة، فتجدهم يقدمون نصر جناق قلعة على إنه نصر إسلامي عثماني و»يوم من أيام الله» من دون أي إشارة لا لمصطفى كمال (أتاتورك) ولا لحكومة الاتحاد والترقي القومية، ولا للضباط الألمان غير المسلمين، قادة الجبهة !
تجد كل الحديث مثلا عن صورة الجندي الشهير «سيد علي» الذي يحمل قذيفة المدفعية، بينما رواية الإعلام التركي لا تكاد تذكر جناق قلعة، إلا ومعها ذكر أتاتورك، مؤسس الجمهورية، عدا الإعلام ذا الميول الإسلامية العثمانية المخصص لمخاطبة الجمهور العربي والجمهور المحافظ. لماذا؟ لأن الخطاب الشعبوي الاسلاموي يرفض مشروع أتاتورك العلماني القومي، الذي ألغى الخلافة العثمانية وطرد عائلة الخليفة، وسحب جنسيتهم التركية، كما يرفض الإسلاميون العرب حزب الاتحاد والترقي القومي الذي أسقط السلطان عبد الحميد الثاني وعادة ما يتهمهم بالعمالة لـ»اعداء الإسلام المتآمرين على العثمانيين» والماسونية و»الصليبيين». الحملة التي انطلقت في اليومين الأخيرين من قبل هذا التيار الذي يقدم التاريخ بصورة شعبوية، والذي لا يريد توضيح سياق تركيا الحديثة ونشأتها القومية، على أنقاض الخلافة الإسلامية، متجاهلا الحقائق الأساسية في معركة جناق قلعة، وعنونت النصر على إنه إسلامي عثماني، بينما أصحاب هذا الخطاب هم أنفسهم من يتهمون أتاتورك بالتآمر مع الغرب والماسونية لإسقاط الخلافة، ويطعنون به في كل مناسبة، وينسبونه لأصول غير إسلامية، وأيضا يطعنون بقادة الاتحاد والترقي، أنور وطلعت وجمال، ولكنهم بكل انتهازية يحتفلون بنصر صنعه هؤلاء الذين يطعنون بهم، ولا يذكرون سوى العثمانية والخلافة في نصر صنعه جيش حكومة الاتحاد والترقي القومي، وأتاتورك الذي أسقط الخلافة وضابط ألماني غير مسلم.
واللافت أن هذه المعركة كانت من الانتصارات القليلة للعثمانيين في الحرب العالمية الأولى، فقد خسرت مع ألمانيا الحرب وفقدت كل شي، واحتل الغربيون الدردنيل وإسطنبول لخمس أعوام من قبل الدول نفسها التي خسرت معركة جناق قلعة، وكان السلطان العثماني لا يحرك ساكنا لمقاومتهم، إلا عندما تحرك أتاتورك في معركة الاستقلال، فانتفض الخليفة العثماني لكن ضده وليس ضد الاحتلال الغربي، وقاتله واعلنه خائنا .وهكذا واصل أتاتورك استعادة تركيا الحديثة، من جناق قلعة حتى معركة الاستقلال، وألغى مؤسسة الخلافة العثمانية التي عفى عليها الزمن. وهكذا يتواصل خداع الجمهور العربي واستغفاله برواية منتقاة مزيفة، تستغل المشاعر المحبطة من الهزائم التي صنعتها هذه الذهنية المسلوبة الذات القومية، والمسخرة باسم الدين لخدمة حروب الأقوام الأخرى وأحزابهم كالاتحاد والترقي، وهكذا منح العربي العاطفي بطبعه والتواق للأمجاد الاسلامية، جرعات مستمرة من التخدير والوهم.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمر سلامة:

    انا اقبل الرواية ولا اشعر بأني مخدوع، الم يتغنى الشاعر احمد شوقي ببطولة اتاتورك “قبل ان يميل هذا للغرب”:
    كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب!؟ كما أن اتراكا يعترفون ويقرون ويثنون على عرب سقطوا شهداء في المعركة. الاختلاف هو بين المسلمين العرب و”القوميين الأتراك” من جهة، ومن جهة أخرى بين “القوميين العرب” والمسلمين الأتراك. كان حريا التنويه لهذا الأمر. لأن فرنسا استدعت كلا المجموعتين القوميتين الى باريس للتوفيق بينهما! عدا ذلك المقال حافل بالطعن والتصيد في الماء العكر والتجني والتناقضات. يمكن القول ايضا ان تحالف اللورنسو – سايكس بيكويين ضد دولة الخلافة مع فرنسا وبريطانيا جعل اتاتورك وغيره ينهجون ايضا نفس النهج ويتحالفوا مع الغرب!

    1. يقول د.خليفة خلف خلاف المحامي:

      لا فض الله فوك استاذ عمر سلامة.. تعليق فـي الصميم

    2. يقول محمد:

      أصبت كبد الحقيقة في تعليقك.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    بالإضافة إلى ما كتبه وائل عصام، في جريدة القدس العربي تحت عنوان (رواية شعبوية عربية لمعركة تركية: أيام الله في جناق قلعة… أم أيام أتاتورك والألمان؟) في تبرير الظلم، كما برّر (البوطي)، ظلم (حافظ وبشار الأسد)،

    الآن، موقف دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، التي تم تأسيسه، بعد فشل محاولة سيطرة أهل فكر (المهدي المنتظر) على (مكة) في بداية عام 1400 هجرية، كنظام اقتصادي، ضد فكر الأحزاب أو النقابات وعلى رأس ذلك الأحزاب الإسلامية، هل هو خاطئ أم لا؟!

    ولذلك أنا أكرّر، حقيقة، من يضحك على من، أو من أخبث مِن مَن، أو من يريد أن يصعد على أكتاف من، هنا؟!

    السؤال ما الفرق بين رؤية أهل اليهودية، أو أهل المسيحية في موضوع أهمية تسريع عودة (المسيح المنتظر) مع من ينشر فكرة حق آل البيت، بكرسي السلطة والحكم والعلم، فكرة أهمية تسريع عودة (المهدي المنتظر)؟!

  3. يقول S.S.Abdullah:

    وعلى رأس هؤلاء دلوعة أمه (دونالد ترامب) أو نتنياهو أو الخميني أو الخامنئي أو السيستاني بل وحتى البابا نفسه؟!

    السؤال الأصح من وجهة نظري، هل يعارض الإخوان، مبدأ ولاية الفقيه، على دولة الحداثة (القومية/الديمقراطية أو الديكتاتورية)، أم لا؟!

    هو أول تعليق لي على عنوان (هل يعارض السيستاني ولاية الفقيه؟) لمقال أحد ممثلي الشتات الفلسطيني، من أهل العراق (وائل عصام) في جريدة القدس العربي،

    خصوصاً في سياق توقيت، بعد زيارة البابا في عام 2021،

    لتصحيح خطأ مفهوم أن ليس هناك غير الحضارة الفارسية/الزرادشتية، كما ورد في كتاب العهد القديم (التوراة) من كتاب الإنجيل عند كل مسيحي،

    وادي الرافدين كان مهد الحضارة الإنسانية بسبب مفهوم التدوين،

    والدليل تدوين التوراة لم يبدأ إلّا بعد السبي البابلي، لأسباب اقتصادية،

    كما أن محافظة صلاح الدين، مدينة نبوخذ نصر أبو السبي البابلي، اخترعت مفهوم السرداب، ليختفي فيه (المهدي المنتظر)، لأسباب اقتصادية، في مشاركة النجف وكربلاء، للخُمس، المُخصص لتمويل جيش (المهدي المنتظر)؟!

    مثل واقعي عن إجرام أهل الإعلام، في تسويق ظلم الطغاة الحاليين

    https://youtu.be/1VrlUDPil98

    هي من وجهة نظري، هذه الحلقة من برنامج (مُختَلف عليه)، بداية من العنوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    الدولة العثمانية إنتهت بعزل آخر خليفة للمسلمين (السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله) سنة 1909 !
    أما ما بين سنة 1909 – 1023 فكان حكم حزب الإتحاد والترقي القومي المتغطي بصورة الخليفة!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول محمود:

    السؤال هل اتاتورك كان يقاتل تحت شعر الدوله االعثمانيه ممثله بالخلافه الاسلاميه الجواب نعم و ببساطه الايعتبر ان هذا انتصار انتصار للجيش العثماني المكون حسب كلامك من العرب ايضا وليس من الجيش التركي فاذا الانتصار للعثمانيين اين الشعبويه في الموضوع

  6. يقول خوهيد:

    النصر كان اسلاميا و ليس اتاتوركيا

  7. يقول محمد:

    يقول الكاتب “وكان السلطان العثماني لا يحرك ساكنا لمقاومتهم، إلا عندما تحرك أتاتورك في معركة الاستقلال، فانتفض الخليفة العثماني لكن ضده وليس ضد الاحتلال الغربي، وقاتله واعلنه خائنا .وهكذا واصل أتاتورك استعادة تركيا الحديثة، من جناق قلعة حتى معركة الاستقلال، وألغى مؤسسة الخلافة العثمانية التي عفى عليها الزمن.”
    ونسي أو تناسى الكاتب أنه بعد عزل السلطان عبد الحميد رحمه الله فإن منصب الخليفة أصبح منصباً صورياً ولا سلطة للسلطان. الاتحاديين أبقوا على منصب السلطان ليكون شماعتهم التي يعلقون عليها مصائبهم.
    أريد أن أسأل الكاتب والعلمانيين، هل الغاء الآذان تقدم وتطور
    هل سحب جنسية آل عثمان وتشريدهم في بقاع الأرض دليل حضارة ورقي وتطور وازدهار
    هل منع دفن جثث آل عثمان في تركيا تعبير عن رقي الأفكار .
    لماذا عزل حاكم من قبل علمانيين يعتبر تقدم وعزل حاكم من قبل متدينين يعتبر تخلف وظلام.
    ألا يرى الكاتب و أيضاً القارئ ان العلمانية التي يدعيها البعض هي فرض الأمر الواقع وعدم قبول الآخر (التهمة التي يطلبها العلمانيين على المسلمين عامة وليس فقط على الاسلام السياسي)
    متى نفهم ونعي أنه علينا حين نختار الديمقراطية أن نقبل كل ما ينتج عنها ونغير ما لا يعجبنا فقط عن طريق صناديق الاقتراع.

إشترك في قائمتنا البريدية