■ مغامرة القراءة في رواية «عادل وسعاد» لإبراهيم المصري لن تكونَ سهلةً ومضمونةَ الخروجِ مِن مَتاهَتِهَا بسَلاسَةٍ، فهي تحتاج إلى كامِلِ مَجهودِ وطاقةِ القارئ، إننا نتجاوزُ مَفهومَ القارئ الخبير إلى مفهوم «القارئ التجريبي» إن صحَّ المصطلح، القارئُ الذي لديه القدرة على أن يعيد تشكيل معطيات الرواية مراتٍ ومَرِّات، لكي يخرجَ منها بروايات عدة، ومن بينها يختارُ لنفسِه الروايةَ التي يراها النموذَجَ الأمثَلَ والأكثر قرباً لتجربة قراءته. لكن هل يعني هذا أننا لا يُمكِنُنا أن نمسكَ بنيةً سرديةً رئيسةً نجعلها النقطة الأساسية للانطلاق في محاولة قراءة النص نقدياً؟ فلا بدَّ من عُنصرٍ أساسي هو قوامُ السَردِ لهذهِ الرِوايةِ، هناك «حادثةٌ أُمّ» تتولدُ عنها باقي التَفريعات المتعددة لمتواليات الحكي السردية في الرواية، وهي التي انطلق منها المؤلِّفُ، وفي محاولةِ استِقصائِنَا هُنا لهذا الحدث الرئيسي الأم سنقفُ أمامَ بَعضِ الاقتباسات من الروايةِ ونُحلِّلُ دَلالاتِها لننظُرَ لطبيعةِ الحكي، والمضمون الروائي المتولّد في النهاية من هذا الفعل القرائي.
وهم المثالية
يقول الراوي: «إذا أخذنا الأحداث التي مرت حتى الآن على أنها حقائق، أو حتى إذا أخذناها على أنها هلوسة، فسوف نسقطُ فورا في الخرافة، ولا يعني هذا أنني أكذب، أنا فقط «مؤلف». والخرافة كما نعلم جميعاً هي أيضاً.. حِكاية.
أنا كمؤلف أحكي حكاية أو خرافة:
حورية وضياء
عادل وسعاد
أمل وعمر
وجدان وأنا
شهاب الذي لم يقبل القسمة على امرأة.
وإبراهيم الذي مات مقتولاً، ربما لأنه كان يطارد نفسه».
الحدثُ الرئيسيُ إذن عَن مُتقابِلاتٍ ذُكوريةٍ ونِسائيةٍ، فهناك أمل وعمر، وعادل وسعاد، وحورية وضياء، ثم المؤلف ووجدان، وفي حالةِ لم يكُن للرجل مقابل فإنه يشار إليه بأنه غيرُ قابلٍ للقسمة، كنايةً عن انتقاصٍ فيهِ.
الحدثُ الرئيسيُ إذن عَن مُتقابِلاتٍ ذُكوريةٍ ونِسائيةٍ، فهناك أمل وعمر، وعادل وسعاد، وحورية وضياء، ثم المؤلف ووجدان، وفي حالةِ لم يكُن للرجل مقابل فإنه يشار إليه بأنه غيرُ قابلٍ للقسمة، كنايةً عن انتقاصٍ فيهِ، لكن هذه المقابلات لها تقابلاتٌ معنويةٌ مختلفة، فمن ناحية، ضياء وحورية، المؤلف ووجدان، هما حالة من حالات الحب الشبِق، الحُب المفضي إلى العلاقة الحميمة، بينما حالتا عادل وسعاد، وأمل وعمر، فيِهما براءة الطفولة، وذكريات المدرسة، باعتبارهما الشخصيتين الرئيسيتين اللتين كانتا مثالينِ في تَصرُّفاتِهِما، بشكل فائق الدقة والانضباط، وتختزن في ذاكرتيهما محاولاتِ التعلم الأولى، وفي الوقت نفسه، هما مثال التسلط الأبوي على الأطفال بفرض ما يرغب الكبار أن يتعلموه وفق رؤيتهم، فتصبح شخصيات عادل وسعاد، أمل وعمر، بقدر ما هي مثالية، إلا أنها شخصياتٌ قابعةٌ تحت سيطرةِ واضعي المناهج، تقول حورية إحدى شَخصياتِ الرواية الأساسية في ثنايا الرواية:
«ألا تلاحظي شيئا؟
ماذا؟
هذا الشخص المتلصصُ عَلينَا الذي يحاولُ أن يَسرِدَ حكايتَنَا في هذا الكتاب لا نعرف له أسما.
ضحكت حورية وقالت:
لم أكن أعرف أنك جاهل إلى هذا الحد.
أنا جاهل، الله يسامحك.
أيوة جاهل، هذا الشخص اسمه «مؤلّف» شخصٌ يعتقدُ أنهُ الله يخلق بشراً وحيوانات وأدواراً ويدمرهم، أو يعيدُ تَركيبهم من جديد، أملاً منهُ في أن ما يفعله قد يجعله أكثر راحةً».
عندما نتأملُ هَذا النَصّ جَيداً، نمسك بالشخصيات التي أنتجت فكرةَ تأليفِ الرواية لدى المؤلف، وهو السؤال الرئيسي الذي نعتقد أنه يحاول أن يقدمه في روايته هنا ـ من منظوري ـ ألا وهو: ماذا لو أن الشخصيات المثالية التي تم اختراعُهَا وتَصميمُهَا، بحيث تكون أنموذجاً لتَعليمِ الناس القيم والمثل، ماذا لو أنها بعثت فيها الحياة وعاشت في حياتنا؟ ما الذي يمكن أن تحققه بقيمها ومثلها في هذه الحياة؟ أو هل تصلح هذه المثل والقيم التي نربي عليها أطفالنا لأن تكون هي القيم السائدة في المجتمع؟ هل يمكن لـ«عادل وسعاد»، و«أمل وعمر» أن يُصبِحَا منحَرِفَينِ، أو ضائِعينِ روحياً، شَبِقينِ بَاحِثَيِنِ عن إمكانية اللقاء الحميمي بينهما بدون قدرتهِما ـ لظُروفِ الحياة والاقتصاد والمجتمع ـ على أن يحققا هذا التواصل؟ أين دور الحياة والموت والقيم والروح من هذه المنظومة؟ والأهم: ماذا يجدر بالمؤلف الذي لديهِ الموهبةُ أن يقدم تجاه القضايا الشائكة في الحياة، التي يقف أمامها عاجزاً، أو معانياً مثلَ غَيرهِ في مواجهة هذا الواقع الذي يبدو بكل تفاصيلهِ وقوانِينهِ والتزاماتِه، عبثياً.
أزمة الواقع
إذن هي في الأساس روايةُ سُؤالٍ وليست رواية «جواب»، رواية تهدف إلى فتح أفق التساؤل حول الواقِعِ والمتخيَّلِ والمصائِر، ولعل هذا ما جعل المؤلف يعتمد على تقنيةِ إتاحةِ إعادَةِ تَكوينِ رواياتٍ متعددةٍ ومتفرعة من الرواية، وأنهُ في أوقاتٍ «يُميتُ» شخصياتٍ ثم يُعيدُها للحَياةِ مَرَّةً ثانية، بل أصبحَ المؤلفُ نفسهُ شخصيةً في داخِلِ هَذه الرواية، وتحدثُ حالةٌ من الصِراعِ بينَه وبينَ بَاقِي الشَخصياتِ للتميزِ الذي يَأخذُه كمؤلفٍ دون باقي الشَخصياتِ، نظراً لكونِهِ قادراً على التَحكُّمِ في مَصائِرِهَا ـ مع ملاحظةِ مفارقة أنه غير قادر على التحكم في مصيره هو نفسه، إلى أن تَحدثَ حالةٌ من ثورةِ الشخصياتِ الدَاخليةِ عَليهِ:
– أسمع.. هل تعرف أنك الوحيد بدونِ اسمٍ في هذه الحكاية، وقد قررتُ أن أُطلِقَ عليكَ اسماً، حتى أسجنك فيه، وتصبح مثلنا سجيناً ولك دور محدد …
– اسمي مكتوبٌ على الغلافين الخارجي والداخلي لهذا الكتاب: إبراهيم
– آه .. إذن أنتَ إبراهيم الذي تصفه بأنه منحوت من طلاقة إنسانية.
– لا طبعاً.. إبراهيم المنحوت هذا شخصٌ من الأشخاص الذين أتلاعب بهم في هذه الحكاية.
– مثلما تتلاعب بي؟
– لا .. أنت لا، وتعرفين ذلك.
– أتعرف الفرق بينك وبين إبراهيم المنحوت؟
– طبعا.. هو شخصية وأنا مؤلف.
– لا.. هو أكثر تحضراً منك، على الرغم من كونك مثقفاً أكثر منه.
– نحن شخصية واحدة عزيزتي، فأنا طالبُ ثأرٍ أيضاً من الحياةِ كلِّهَا.. وإن كنت أقل جرأةً مِنهُ في مُواجَهَةِ هذه الحياة».
أخرَجَ المؤلِّفُ ذاتَهُ من داخلِ الروايةِ تاركاً القارئ في مواجهة النهايات التي يقدمها، والتي جميعها غير منطقية ولا تنطَبِقُ عليَها رؤيةُ الواقع.
هذا النصُ من النُصوصِ القليلةِ الكاشفة والواضحة داخل الرواية، الذي يمكن تصنيفهُ في الأساسِ على أنه حوارٌ بين الكاتب ونفسه، ألم يُسمِّ محبوبَتَهُ وجدان؟ ومن ثَمَّ فكاتبنا هنا يتحاور مع «وجدانه»، مما يجعلنا ننظر لهذه الرواية بوصفِهَا حالةً نفسيةً داخِلَ المؤلِّف، تأتي كردِ فِعلٍ على واقعٍ سيئٍ يرفُضُه ويحاول أن يتخذ منه موقفاً، فجاءت فكرة التأمل في المثل والقيم التي كان عادل وسعاد مثالاً لها ونموذجاً عليها، ثم أمل وعمر بعد ذلك، وكيف تتحول هذه المثل في أرض الواقع إلى النقيض أحياناً، وتصلُ إلى حدِ القتل وإزهاقِ الروح، وضياعِ معاني القيم الإنسانيةِ، والتخبُّطِ الكَبيرِ بينَ الشخصياتِ في داخل الرواية، هو انعكاسٌ للتخبط الأكبر الذي نعيشه جميعاً في حياتنا، بدون أن تكون هناكَ مساراتٌ واضحةٌ وهادية للطريق، فوكيل النيابة يصبح مطلوباً لثأرٍ لم تتحقق فيه العدالة بقيامِ جِدهِ بقتلِ آخَر، والطبيبةُ تصبحُ قاتلة، والشريفُ ينقضُ على شَرفِ الفتيات الصغيرات، والقِطةُ تصبح تعبيراً عن روحِ حورية التي عاد للحياة بعد الموت، وهكذا من كل أنواع المفارقات والعجائب نقابلها في الرواية، بدون أن يكون هناك سردٌ تقليديٌ في خَطٍ واضِحٍ نمسك به من نقطة زمنية محددة إلى أخرى، عدا الإشارةَ إلى أنَّ هَذهِ الرواية تَبدأُ أحداثُها في الستينيات ثم نقفزُ للألفيةِ ثم نعود من جديد للستينيات في زمنٍ مُستعادٍ بينَهُما.
أفق التأويلات
حتى استدعاء شخصياتٍ من الفضاء الخارجي يحدث داخِلَ الرواية، ففجأة يُفاجِئُنا المؤلف بأنه غير قادر على إيجاد نهاية لروايته، يقول: «ما يزعجني الآن، أن هذه الحكاية قد بدأت بضياء وحورية، وتكاد تنتهي بي وبوجدان، وهذا بالضبط ما لا أريده، لهذا سوف اقترح أكثر من نهاية، ثم أترك جميع الشخصيات تتخبط فيها، فيما أهرب أنا ووجدان من النهايات كلها».
وفي هذه اللحظة بينما أخرَجَ المؤلِّفُ ذاتَهُ من داخلِ الروايةِ تاركاً القارئ في مواجهة النهايات التي يقدمها، والتي جميعها غير منطقية ولا تنطَبِقُ عليَها رؤيةُ الواقع، فأحدها ينزل فيها كائن فضائي وينهي الصراع بين شخوص الرواية على طريقة كرة القدم من يستطيع أن يحرز أهدافاً في مرمى الآخر أكثر، ثم الاحتكامُ لضرباتِ الجزاء، ثم نهاية أخرى لراقصة أسطورية لعوب، قبل الوصول إلى النِهايةِ التقليديةِ للمؤلف ووجدان وهما يعيشانِ حَياةً عَاديةً ويتعرضانِ للشَيخوخةِ معاً، بدونَ القدرة على التغلب على معوقات الحياةِ ومواجهتها، ولا شكَّ أن الإسقاط، وجَعْلَ العِبارةِ الواحدة والفعل الواحد والكناية الرمزية الإجمالية تحمل بين طياتها أكثر من معنى، هي السِمةُ الأساسيةُ التي أعطت لهذه الرواية تشويقَهَا، فأسلوبُ الوَصفِ والحكي والتناول للمشكلات اليومية للإنسان المصري ـ العربي، ثم إعادةُ طَرحِ ذَلك على هَيئةِ أقصوصةٍ خيالية قابلةٍ للحكي وإعادة التشكيل من جديد وفق رؤية القارئ، هو ما يمنحُ لرواية (عادل وسعاد) جاذبيتَهَا الخاصة، لكن تبقى طريقةُ حكيها، وإمكانيةِ إعادةِ تَشكيلِهَا في ذهن القارئ لتنتج معانيَ مُختلفَةً هي التحدي الحقيقي أمام القارئ الذي سيتناول هذه الرواية بالقراءة والتعمق.
٭ شاعر مصري