يعود الروائي المغربي سعيد الشفاج، من جديد، ليعانق قراءه في عمل جديد ومختلف موسوم بـ«عشق الأميرات» عقب النجاح الذي عرفته روايته الذاتية الأولى «درب المعاكيز» التي أعطى فيها الحق للذات، وكأنه بذلك، أراد أن يصفي حسابا شخصيا سيكولوجيا مع مرحلة معينة مرت بحلوها ومرها، وتركت ندوبها في الأعماق، ويقطع مع فضاء «البرنوصي» الذي يسكن الذاكرة والوجدان.
كان هذا المسرد الذاتي الأولي عتبة للعبور نحو متخيل طليق يتماهى مع الإنسان المغربي في كينونته الجريحة، تلك مرحلة مؤسسة في تاريخ الذات الكاتبة لتتخلص من عنف السيري الذي يظل في منبت الطريق حجرة لها متعتها الآسرة، تحد من انطلاق الركب إلى مداه إذا لم يحسن الروائي التملص منه في تجربته الأولى. لقد كان سعيد عنيفا مع متخيل الطفولة والشباب والذات، وسار به إلى حيث يجب أن ينتهي وينتثر ليقول له في نهاية العمل: كفى لقد أعطيتك حقك ووفيت. والآن اتركني أحلق طليقا في آفاق محكيات العالم البراني.
وذاك فعلا ما تحصل للشفاج في عمله الثاني: فإذا كان كثير من الروائيين المغاربة ضلوا طريقهم الصحيح في مخاتلة محكياتهم السيرية فظلوا طوال مساراتهم أوفياء لها، فاعتبروا كتاب سير ذاتية لا روايات متخيلة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفروق النوعية بين الرواية والسيرة في معانيهما البسيطة المتداولة، بعيدا عن التعميم المعوم الذي يعتبر السيرة نوعا روائيا تحت مسمى «رواية ذاتية»، فإن الشفاج، في تجربته الثانية، انطلق بعيدا بدون أن يلتفت للخلف، مصمما عالمه الروائي بإصرار وثبات، في استقلال تام عن الأفضية التي يسكنها وتسكنه، وبعيدا عن النماذج البشرية التي يصادفها في حياته اليومية، وفي انفصال تام عن الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه (البيضاء) محولا وجهته نحو فضاء سهل دكالة، المتاخم للمحيط ووادي أم الربيع، وإن عاد للمدينة، فإنما يفعل ذلك لاعتبارات فنية وجمالية.
كان كثير من الروائيين المغاربة ضلوا طريقهم الصحيح في مخاتلة محكياتهم السيرية فظلوا طوال مساراتهم أوفياء لها، فاعتبروا كتاب سير ذاتية لا روايات متخيلة.
وريث ساذج وتركة مسمومة: عندما توفي بلعربي الحطاب الفلاح الدكالي، لم يخلف لأبنائه، كريمة، جلول، مسعود، ومحمد، تركة تغنيهم، مجرد بعض الفدادين الصغيرة، وبعض شجيرات التين والعنب والزيتون، ودار عتيقة مبنية من الحجر والطوب، والكثير من المحبة والحنو والذكريات المحزنة، ووصية مخصوصة لابنه محمد يطالبه فيها بولوج المطمورة، وفك طلاسم ما يوجد في داخلها من أسرار غامضة. لم يتسرع محمد، ولم يكن ملهوفا بطمع، أو رغبة في الانفراد بأعطية أو هبة. كان قنوعا مطمئنا إلى ما رزقه الله، وفيا لأسرته وابنته الوحيدة التي جاءت أنثى ضدا على رغبته ورغبة العائلة. وبعد أن انتهت مراسيم العزاء، وخلت الدار من المعزين، وقصد كل من الورثة مساكنهم، انتهز محمد ليلة ظلماء للاختلاء بسر المطمورة: فكانت المفاجأة أن عثر على رسالة من ملك الجن درياقيس، الذي خرب الطغيان والاستبداد مملكته، فانقلبت عليه الرعية، يطالب فيها الحاصل على الرسالة إبلاغ الصرر المتشكلة من هدايا وتعازيم محصنة إلى ابنته الفاتنة «تاج البحور» التي ما إن يسرق جني أو إنسي نظرة إلى وجهها حتى يفقد صوابه ويصيبه الخبل لفرط جمالها الآسر، موصيا إياه بالحرص على تحاشي النظر في وجهها، وبأخذ نصيبه من الهدايا، وهي عبارة عن صرة من الذهب الخالص.
وذاك ما حصل، حيث أعد محمد العدة لركوب المخاطرة، والقيام بالواجب، فشدّ الرحال رفقـــة صديــقه عباز المفتون بعوالم أزمور ونسائها الفاتنـــات، وعيوط الشعبي الآسرة، بدون أن يفشي له سبب زيارته لأزمور.
وتســـلل مع غروب الشمس إلى القنطرة المعلومة، حيث المدخل السحري لقصر الأميرة «تاج البحور». وقبل أن يغامر قصد المسجد وصلى مع المصلين صلاة المغرب، وبكى بحرقة لأسباب لم يتبينها، كأنما تهيأ للمصير المجهول الذي ينتظره. وبينما عاد عباز منتشيا بما حصله من متع ونزوات، لم يعد محمد إلى دوار العيايطة، واختفى، بشكل غريب، لمدة شهور، تاركا زوجة وحيدة، وبنتا صغيرة اسمها وسيلة. وبعد أن يئست العائلة وأهل الدوار من عودة محمد ولد بلعربي الحطاب، واعتقـــدوا أن طارئا ما اعترض سبيله، فهلك أو هاجر أو جن متأثرا برحيل والده، لكن الحقيقة هو أنه خرق أصول الوصية، ودقق نظره في وجه «تاج البحور» فأصابته لعـــنة الوله، وفقد عقله. وبعد شــهور من الضياع والاحتراق بنار العشق، عاد إلى الدوار منهكا، بشع الملامح، فتـــوضأ واعتكف في جامع القرية ناسكا متعــبدا إلى أن جاءه اليقين، وقبل ذلك أسر للفقـــيه بالذهاب إلى الشجرة، حيث اكتشف أخـــوه مسعود وجود صرة فيها قطع ذهبية احتفظ بها للوريثة الوحيدة الطفلة «وسيلة».
تشكل الوثن:
تصور الرواية مدى تفشي الخرافة في الأوساط المجتمعية، سواء في المدن أو القرى، وكيف ترسي العقلية المتخلفة هاته الثقافة بدعم من الجهات الرسمية التي ترعى هذا التوهم، وتحرص على أن يظل ساري المفعول تخديرا للمستضعفين، وإلهاء لهم عن النظر إلى موقع الجرح، والوعي بحقوقهم ومسؤولياتهم. يتحول الرجل العادي محمد، المصاب جراء ما حصل له مع الأميرة المزعومة، إلى ولي صالح يقصده المهمومون والمرضى والموسوسون بحثا عن علاج سحري يصدر عنه بفعل البركة التي نزلت عليه من السماء، واختصته بهذه العطية «شفاء أسقام الناس الفقراء والمعوزين، وطرد النحس عنهم».
لذلك، عندما تعي ابنته وسيلة اللعبة في ما بعد، وتعرف حقيقة والدها الضحية، تسعى في سبيل إنقاذه من هذا الضنك، لكنها تجد تضييقا وتهديدات صارمة من لدن جهات عليا في البلد، ولأن مقامَها كان أثيراً عند أحد رؤساء الأمن، فقد يسر طريقة خلاقة لتحقيق أمنيتها؛ وهي نقل جثمان والديها خارج الضريح إلى المقبرة المعروفة، مع الإبقاء على سرية العملية، وإيهام الناس بأن الولي ما يزال يسكن قبره.
يطرح الشفاج المفارقة الصارخة بين الوعي بالطقس الخرافي، واللاوعي به، يجعلهما معا يتجاذبان السجال بشكل عفوي، لكن وسيطا مزيفا كان بالمرصاد، تيار الوعي، ويمتلك القوة والسلطة، بحيث يقف حاجزا أو وقوع التواصل بين التيارين، مسخرا وسائله كلها في سبيل الإبقاء على التباعد بينهما، لما فيه من خطر على السلطة، لذلك فهو يسلك كل الطرق لدحر بعض الواعين المتمردين عن رغبته في كشف الحقيقة، وتعرية واقع الزيف والبؤس اللذين يغلفان هذا الطقس، وفضح المستفيدين من ريعه وعائداته المستحلبة من جيوب الفقراء.
تأسست الرواية على منطق المفارقة والصراع بين تيارين متجاذبين: تيار الوعي والصحوة الفكرية اللذين يريدان القطع مع مظاهر التخلف والزيف، والتملص من كماشة ثقافة الوهم التي تشكل حركة التنوير والنهضة.
منطق الصراع:
تأسست الرواية على منطق المفارقة والصراع بين تيارين متجاذبين: تيار الوعي والصحوة الفكرية اللذين يريدان القطع مع مظاهر التخلف والزيف، والتملص من كماشة ثقافة الوهم التي تشكل حركة التنوير والنهضة، يتجلى في شخصية وسيلة التي سخرت كل طاقاتها لتحرير والدها من صفة الطوطمية التي ألصقت به قسرا، فلطخت صورته، وأساءت لروحه، واستثمرت بمكر قبره لأغراض أيديولوجية وسياسية وثقافية، وتيار التخلف ممثلا بالرجل المهم في هرم الدولة، والفقيه، وأهل دوار العيايطة، والمستفيدين من هذا الوضع، وباقي العامة المتمسكين بقشة الخرافة التي لن توصلهم أبدا لبر الأمان.
لقد انتصر تيار الخير على تيار الشر بعد صراع مرير، ولو بطرق ملتوية، وجزئية، فقد تمكنت «وسيلة» من تخليص قبري والدها ووالدتها من سجن الضريح، وحولتهما إلى المقبرة العامة في القرية، سرا، لكن الخرافة استمرت، لأن هناك سندا قويا يحميها، ولأنها تعشش في أدمغة البشر وخيالهم، وليست مرتبطة بولي أو ضريح أو دعامة مادية محددة.
وربطت الرواية بين الوضع الهش للثقافة والوعي وسياق تشكل الفكر المتطرف الذي ينبثق بوصفه رد فعل عنيف تجاه هذه المظاهر، ما دام الأمر لا يتعلق ببنية فكرية متينة، تغربل الأفكار وتناقشها قبل تبنيها، فإن أي فكر يعتمد الميتافيزيقا وبلاغة الوهم والتخويف والترهيب والتفقير يستطيع إيجاد عش له ضمن هذه المنظومة الهشة المتهالكة، وعليه فقد انتشر سرطان التطرف بين صفوف الشباب العاطل في الأحياء المهمشة، لغياب استراتيجية ثقافية تنويرية بديلة ترعاها المؤسسة وتحضنها وتدفع بها حماية للناشئة، وعجز المدرسة بمناهجها الرخوة عن الاضطلاع بذلك. وكان الشاب بلعربي الحطاب ابن عم وسيلة، وعشيقها الأول الذي فتحت عليه عينيها بدون أن يلتفت إليها، ضحية هذه الثقافة، قبل أن يتم استدراجه لخدمة أجندات أخرى مقابل التخلي عن أفكاره.
تركيب
نوع الروائي بين التبئيرين الداخلي والخارجي ليقلب الحالة الإنسانية المقصودة بالإضاءة والتنوير، على أوجهها المتعددة، وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعددة، ليقدم لنا عالما مكتملا لمجتمع مصغر يتجلى في قرية لعيايطة، مفككا بنيتهم الذهنية، ومبرزا النواة الأصلية التي تنشد إليها كل العلاقات الإنسانية، وتدور حول كافة الأنشطة، وتوجه السلوكيات والفكر. وقد اعتمد سعيد الشفاج على السرد التوسيعي الذي يبدأ بأفق ضيق، وحادثة سردية بسيطة، ليتجه نحو التعقيد والتوسع كلما توغل وتطور، فتنفتح آفاق الحكاية، وتتعدد مساربها، وتجسر لها قنوات هامشية تغنيها وترفدها وتضيئها، لكنها سرعان ما تغلقها دفعة واحدة في نهاية الرواية، وبشكل غير متوقع بالنسبة للقارئ، وهي تقنية قلما نجدها في الرواية العربية.
٭ ناقد وروائي مغربي
قراءة علمية هادفة و بعد نظر ينم عن ثقافة كبيرة ،و ادراك للبنية السردية للرواية بعيدا عن المجاملة.
هنيئا للناقد و المنجز الروائي.