رواية «على قرن الكركدن»… الثورة التونسية بعدسة إيطالية

قد لا نبالغ إذا قلنا إنّ الأدب قادرٌ على معاينة الوقائع بصورة أكثر إتقانا مما هي عليه في الواقع الفعلي، حيث يرتحل بك بين محطات مهمة ومتنوعة، ويسلّط عدسته على تفاصيل قد لا تتراءى لك، ويضفي على الأحداث طابع الخيال الممزوج بالحقيقة، ليدفع القارئ إلى البقاء في رحاب التأويل، يهرول وراء فكّ شيفرة المعنى.
هكذا هي رواية على «قرن الكركدن» للإيطالية فرانشيسكا- بيلّينو، ترجمة سوسن بوعائشة، ومراجعة وتدقيق المترجم التونسي أحمد الصمعي، وهي رواية تسرد لحظة من لحظات تونس الحديثة، أي بعد الحراك الثوري سنة 2011. وهي تتحرك في مساحة زمنية دقيقة وحسّاسة جدا، باعتبارها تسير في أفق يوم واحد بعد فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
تحكي الرواية عن فتاة إيطالية تحولت إلى تونس في ظرف طارئ لتحظر جنازة صديقتها، تلتقي بعد وصولها إلى المطار بصاحب سيارة تاكسي يُدعى «هادي» الذي سيتكفّل بمهمة إيصالها إلى مدينة القيروان، حيث تقطن صديقتها التونسية «مريم». وهناك داخل السيارة تبدأ البطلة باسترجاع دقائق لقائها بمريم منذ البداية، وعلى لسان الشخوص تبدأ تفاصيل القصّ تنبعث لتسرد لنا حكايات ما بعد الثورة، حيث تلعب تقنية الاسترجاع دورها في إحياء الأحداث القديمة، مع توصيف دقيق للحظات مهمة في الثورة التونسية.
ستفتح ورقات «على قرن الكركدن» وتجد نفسك في حضرة فتاتين إحداهما تُطارد حباً في بلاد أجنبية (إيطاليا)، وهي مريم التي تعلقت برجل إيطالي «جورجيو» أثناء عملها في مدينة القيروان، وأخرى أجنبية تدعى «ماري» باحثة في مجال الأنثروبولوجيا، ستكشف على لسانها الكاتبة بتقنية الحفر الأريكيولوجي في بنية الإنسان التونسي، وكيفية ممارسته للحياة اليومية من لباس ومأكل وطقوس تعبّد وشعائر، وكل ما يتعلق بميثولوجيا العرب من أساطير وقصص خيال. على لسان «ماري» ستجد نفسك في عوالم جديدة قد لا تعرف عنها شيئا، وفي جرابها ستعثر على أسئلة لطالما راودتك وأنت تبحث عن أجوبة، ومن خلالها ستستيقظ على فاجعة الآخر الذي يعرف عن ثقافتنا ما لا نعرفه أصلاً.

رواية «على قرن الكركدن» هي بمثابة عمل وثائقي يسرد بقلم روائي مدهش، حيث تتحوّل الأحداث إلى ضرب من البث المباشر يعرض أمامك تفاصيل ولحظات من تاريخ تونس.

تبدو متابعة القصّ في رواية «على قرن الكركدن» مغامرة صعبة المراس، لاسيما وأنّ صاحبتها تعدّد أصوات البوح عن مكنونات الذات، فتجد نفسك وأنت تقرأ أمام شخصيات متعدّدة، تصدح ثقافة وفكرا، ولكل رأيه وتوجهاته في سرد الأحداث. وبناءً على ذلك نجد الكاتبة، وكأنها منشغلة بكثير من القضايا ضمن هذا العمل. أما عن زمن القصّ فهو زئبقي إلى حدّ كبير، يتراوح بين الماضي والحاضر، يتداخل بسرعة كلّما استقرت عدسة السرد على زاوية ما، فتجد القارئ يهرول وراء الأحداث من روما إلى تونس، ثم القيروان، وأحيانا تُبثّ مشاهد تاريخ من داخل التاكسي، خلف بلور السيارة وكأنّ الآخر ينظر إلينا بعين أخرى، عين تنظر إلى الأشياء من خارجها، وترصد صراع البوليس مع المتظاهرين، ومن ورائه صراع الأنظمة مع شعوبها.
على هامش القصّ نجد في حوار ماري وهادي في طريقهما من تونس إلى القيروان، شذرات روائية تمرّر من خلالها فرانشيسكا- بيلّينو رسائل أدبية تحمل مضمونا عميقا، حيث يتحوّل هادي المواطن البسيط في سيارة تاكسي إلى عارف بالتاريخ، يسرد على باحثة في مجال الأنثروبولوجيا تاريخ تونس وتفاصيلها منذ 1861، وهنا تتجلى أكثر الثنائيات داخل الرواية، وهي ثنائية قد تختزل فكرة الأنا والآخر، فكرة المواطن البسيط مع باحثة تعرف دقائق الأمور، حيث تحوّل إلى دليل يضمن وصول البطلة إلى القيروان في ظلّ أحداث مشحونة، ووقائع اتسمت بالخطورة.
في الرواية نجد رصيدا مهماً من الثقافة الشعبية التونسية، متجسّدة في «يد فاطمة» أو ما يُعرف بخمسة التعويذة، هي رمز يستخدم كتعويذة لدرء الحسد والسحر. وهي موجودة في التراثين الإسلامي واليهودي، كما أنّها منتشرة في منطقة الشرق الأوسط  وشمال افريقيا، وعدد من الدول الإسلامية، فضلاً عن أنّها تقف عند التفاصيل الدقيقة لمدينة القيروان، وتحديدا «المدينة العربي» كما يحلو للتونسيين تسميتها. تصور أيضا تونس البلد المتوسطي المسلم المتأثر بالحضارة الغربية.
تبدو الرواية في نظري قائمة على ثنائيات، ثنائية الأنا العربيّ والتونسيّ على وجه التحديد، والآخر الغربي، وثنائية مريم وماري، وروما والقيروان. بين الأنا والآخر مسافة شعوب تحرّرت، وأخرى تبحث عن ذاتها في كل هذا الركام من التاريخ، بين ماري ومريم قصة فتاة ترهقها الأسئلة والتقاليد والأساطير، وأخرى تنظر إلى العالم من شباك الحرية، أمّا روما والقيروان فهي ثنائية أخرى أرادت بها الكاتبة – وتحت غمزة أدبيّة- أن تحدّد معالم صراع الشرق مع الغرب، رغم كل مسافات القرب والاعتراف، روما (الرومان) والقيروان (الإسلام) وكلّ هذا الامتداد الحضاري والثقافي التجذّر في التاريخ.
رواية «على قرن الكركدن» هي بمثابة عمل وثائقي يسرد بقلم روائي مدهش، حيث تتحوّل الأحداث إلى ضرب من البث المباشر يعرض أمامك تفاصيل ولحظات من تاريخ تونس. ولعلّه من الإنصاف القول إنّ فرانشيسكا- بيلّينو استطاعت أن تنقل لنا همومها الخاصة تجاه الواقع التونسي، وهو نقل اتسم بالجرأة الأدبية، لاسيما وأنّ الكاتبة تجاوزت عقدة الذات الغربية، وانخرطت في ما بات يعرف بالتوثيق للربيع العربي، الذي كانت شراراته من تونس، فضلا عن أنّ الكاتبة تعاين واقع الثقافة العربية لأوّل مرة، وهي تسير وسط ألغام من القضايا، وتفتح أرشيف التاريخ بكل حذر، وهذا لعمري ليس أمرا سهلا، مع العلم أن الكاتبة لها اهتمام بالثقافة العربية في إصدارات سابقة، وتبدو منشغلة حقيقة بدقائق الثقافة العربية. وفي الأخير يبقى أمر تلقي هذه الرواية مطلبا مهما في الشأن الثقافي التونسي، خاصة أنّ الرواية تضعنا في لحظة زمنية مهمة.

٭ كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية