تكتسب رواية «قلعة الدروز» للأردني مجدي دعيبس أهميتها في أنها الرواية الأولى – حسب علمي- التي تتخذ من واحة الأزرق وقلعتها فضاء مكانيا لمعظم أحداث الرواية، في مغامرة إبداعية تحسب لها في تناول الأطراف الأردنية المهملة روائيا، وبالكاد نجد رواية تخرج عن مراكز المدن الأردنية الرئيسية. كما أن لها فضل السبق في الحديث عن الدروز «بني معروف» الفارين من جبل العرب، ودورهم في إحياء واحة الأزرق وتعميرها.
تناولت الرواية أحوال وظروف المنطقة العربية في سوريا والأردن بدايات الربع الثاني من القرن العشرين، وقدمت وجبة معرفية سلسة، تغري القارئ بمزيد من القراءة والبحث عن المنطقة وأوضاعها آنذاك. ويسجل لها أنها اعتمدت على مراجع تأكيدا على موثوقية ودقة المعلومات التي أوردتها. وهذه الرواية هي الجزء الثاني من ثلاثية الثورات، بعد رواية «الوزر المالح» والجزء الثالث قيد الكتابة.
الموضوع الرئيس في الرواية كان حول الثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي التي اندلعت شرارتها من جبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش، في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، ومعظم أحداث الرواية جاءت تداعيات ومآلات لهذه الثورة؛ كأعمال المقاومة والهروب من المحتل وبطشه وظاهرة الجواسيس وغيرها. غير أن اللافت في هذه الرواية احتفاؤها وتوثيقها للعديد من البدايات، وهذا ما تتناولة هذه المقالة.
تناولت الرواية إرهاصات الثورة السورية الكبرى وانطلاقتها عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش في جبل العرب وامتدت إلى العديد من المناطق السورية، وجاءت كرد فعل لظلم المحتل الفرنسي وبطشه، ومع أن الثورة أخمدت ولم تحقق أهدافها، إلا أن روح التحرر والتمرد وعشق الحرية تغلغل في وجدان الناس، وأصبح واجب طرد المحتل هاجس الجميع.
ظاهرة الجواسيس ملازمة دائما للسلطة المحتلة، حيث يقوم بعض أبناء البلد بخيانة أبناء جلدتهم خدمة للمحتل؛ مقابل مال أو حظوة أو دناءة نفس لا يمكن تفسيرها، والجواسيس هم أهم الأدوات التي تفت في عضد الثورات وحركات المقاومة، وتفشلها، وتؤدي إلى خسائر كبيرة لا يمكن تعويضها، والمرء يجد للمحتل تبريرا، فهو عدو غاشم، دأبه القتل والتدمير، لكن ما حجة ابن البلد أن يخون، ويصبح أداة قاتلة مسمومة في يد العدو؟ وأي عذر يمكن أن يبرر دنسه وقذارته وانحطاطه؟!
تناولت الرواية نشأة قلعة الأزرق، على يد المهندس الروماني أرنسو الذي شيدها بأيدي العبيد، على أنقاض القلعة التي بناها الأنباط، وقد أقرَّ لهم بحسن اختيار المكان، وأنه الأفضل في الواحة، كما أعجبه تخطيط قلعتهم، فاعتمد أساساتها وتوسع فيها بما يحقق رؤيته وشغفه وفكره، ولتكون حصنا يخدم الإمبراطورية الرومانية في عمق الصحراء. وعندما لجأت بعض العائلات الدرزية إلى واحة الأزرق هربا من بطش المحتل الفرنسي، أحيت القلعة التي كانت شبه مهجورة، وعرفت بعد ذلك بـ«قلعة الدروز». وكانت حركة إحياء القلعة سببا في ظهور واحة الأزرق، كمكان للإقامة والحياة، ولجأ إليها من بعد الكثير من العائلات وتوسعت، حتى أصبحت اليوم بلدة كبيرة، تحتل مركزا مهما على طريق السفر إلى السعودية والكويت والعراق.
انداح الفضاء المكاني للرواية في مدى واسع؛ بدأ بقرية أمتان جنوب جبل العرب وانتهاء بواحة الأزرق، مرورا بأم الجمال والمفرق ودرعا والرمثا وإربد والحصن والصريح وغيرها من القرى البينية، بالإضافة إلى دمشق وحيفا وصلخد وغيرها.
وعندما طال المقام في القلعة، ولم تظهر تباشير خروج المحتل ومطاردته للفارين، وازدياد العدد، اضطروا للخروج من القلعة، مع اتخاذ التدابير اللازمة لاتقاء خطر الوحوش، كما اقترحها عجاج أبو العطا، كما أنه دعا إلى استصلاح الأرض لزراعة الحبوب لتوفير المؤونة الكافية للعائلات، ولما لم تنجح أشار عجاج بزراعة الأشجار، خاصة اللوزيات والزيتون، وكانت بداية لاستثمار الأرض وزراعتها إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من توفر المياة بكثرة في واحة الأزرق، ووجود بئر داخل القلعة، إلا أن عجاج أبو العطا رأى ضرورة حفر بئر خارج القلعة لري الأشجار، وظهرت المياة على عمق قليل، وكانت المفاجأة أن جفت المياه بعد يومين وكونت طبقة من الملح، فاستبشر الأهالي خيرا، وكانت بداية لإنتاج الملح، والمتاجرة به بين الأزرق وأم الجمال والمفرق ودرعا والرمثا وإربد والحصن والقرى التي بينها، وكانت العوائد تقسم على العائلات، وغالبا ما تكون من الحبوب. ولعبت تجارة الملح دورا كبيرا في بروز الأزرق وأهميتها، وعقد أهلها صلات وعلاقات مع تجار وأهالي المناطق التي يتاجرون معها، وأصبح ملح الأزرق هو المفضل لهذه المناطق لجودته ونقائه.
كما تشير الرواية إلى حادثة طريفة، وهي بداية دخول «المتة» إلى قرى جبل العرب، خاصة قرية «أمتان» حيث عاد طايل ابن عم المختار من الأرجنتين لتصفية أملاكه والعودة، وعرفهم على شرب «المتة» التي تؤخذ من شجرة المتة المعمرة ودائمة الخضرة مثل الزيتون. وأخبرهم طايل أن المتة هي الشراب الشعبي الأول في الأرجنتين وليس القهوة أو الشاي.
كان للمرأة دور بارز ومفصلي في الرواية، لا يقل أهمية وتأثيرا عن دور الرجل في كثير من الأحيان، وخاصة صبحية زوجة عجاج ونعايم زوجة ذياب وأديبة وأمها ودلال وأم تيسير وبيسان وغيرهن، وهذا يؤكد أن المرأة لم تكن مهمشة آنذاك، وكانت تقوم بدورها بما يناسب قدراتها وإمكاناتها.
انداح الفضاء المكاني للرواية في مدى واسع؛ بدأ بقرية أمتان جنوب جبل العرب وانتهاء بواحة الأزرق، مرورا بأم الجمال والمفرق ودرعا والرمثا وإربد والحصن والصريح وغيرها من القرى البينية، بالإضافة إلى دمشق وحيفا وصلخد وغيرها.
تألفت الرواية من ثلاثين فصلا، حمل كل منها اسم أحد شخوص الرواية؛ إذ يؤدي دوره كصوت راوٍ يتكلم بحرية من الزاوية التي يراها، والجميل أن كل فصل ابتدأ بعنوان رديف مكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، يشير إلى الحدث الأبرز والرئيس في هذا الفصل، ما يزيد من شغف القارئ وتطلعه لمعرفة المزيد. ويحسب للرواية قصر فصولها التي جاءت بمعدل ست صفحات لكل منها، وهذا يجنب القارئ الملل، ويمنحه محطات استراحة، ويشجعه لمواصلة القراءة، ويشعره بالإنجاز.
تميزت الرواية الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 189 صفحة، بلغة رائقة جميلة بعيدا عن التكلف والفذلكة، بسرد ممتع يتصف بالتشويق، دون إثارة مجانية، واعتمدت على التداخل الزمني، والتقديم والتأخير، وربط الماضي البعيد بالحاضر، ووظفت تقنية تعدد الأصوات، وأفردت أصواتا لواحة الأزرق والجواسيس وغيرهم، في ممارسة ديمقراطية تُحمد للكاتب، الذي يؤمن بحرية التعبير وأن يسمع القارئ وجهات النظر المختلفة، دون تعنت الكاتب أو فرض وجهة نظره ورؤيته، وترك للقارئ الحكم الأخير على كل شخصية، أو حدث إن شاء أن يتقمص دور القاضي.
كاتب أردني