تتميز الرواية العربية الفلسطينية بخصوصية تعالقها بالواقع الفلسطيني، بمعنى آخر تاريخية الوجود الفلسطيني، الذي يفرض شكلاً من أشكال الالتزام الذي لا يمثل عبئاً بمقدار ما يعني مسؤولية، ومن ذلك محاولة نفي حق الفلسطيني أن يرى العالم كما يراه الآخرون، لا لكون الفلسطيني عاجزاً عن أن يكون طبيعياً أو تجنباً لشبهات التخلي عن قضيته، إنما لكونه غير قادر على تناسي ذاته؛ بمعنى الذات التي لا يمكن أن تكتمل نتيجة التهديدات التي تطال قيم البقاء، فلا جرم -إذن- أن يتسم الأدب الفلسطيني بمسارين: الإبقاء على النمط الطبيعي للحياة مقابل أن يبقى وفياً لقضيته، ومن هنا، فإن أي كتابة ستبقى مؤطرة بهذه المعضلة أو ظلالها، وحين يكتب أسير فلسطيني مناضل رواية ينبغي أن نقرا هذه الرواية في ضوء خصوصيتها وسياقاتها، وما يمكن أن تحتمله من رؤية جديدة يمكن أن تشكل إضافة للسّردية الفلسطينية.
الرد بالاستلاب
تعتمد الرواية البنية الثنائية (المزدوجة) في محاولة لاختزال الصراع الوجودي بين الفلسطيني واليهودي (الصهيوني) ضمن مستويات متعددة، ومنها الصراع على الأرض التي تتنازعها هويتان: الأولى حقيقية وعميقة، والأخرى طارئة مصطنعة، والأخيرة تسعى لأن تجد لها مرجعية في الأرض والتاريخ، بالتوازي مع محاولات محو الماضي، فالمستوطنات -على لسان شخصية نور الشهدي – نهضت على أنقاض قرية عربية دمرتها العصابات الصهيونية، فأحالت أهلها إلى لاجئين، وهذا ما يدفع إلى قول نور: «لا وجود لشمشون هنا، إنما هو مقام الشيخ سامت» وفي ذلك ثمة استلاب أو طعن في السردية الصهيونية التي تسعى لأن تختلق تاريخاً يعلو الطبقة لحقيقية للأرض، التي تمثل مركزية معمقة في تكوين البناء السردي ضمن ثنائية تبدأ من تمثيل الفضاء الكولونيالي (الجغرافيا) كما يمكن أن نجمل بعضها في تكوين الشخصية المركزية (نور الشهدي) التي تقابلها شخصية (أور شابيرا) وهناك شخصية (سماء إسماعيل) الفلسطينية مقابل (أيالا) الإسرائيلية، كما ثمة ثنائية نور الشهدي وصديقه الأسير، وغيرها من الثنائيات الدلالية.
يُشار إلى أنه يمكن نقع على التمكين الثنائي في نماذج من الأدب العالمي، ليكون جزءاً من خطاطة تقترب من النقيض الذي يتلبس الذات، كما في رواية «الدكتور جيكل والسيد هايد» للروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، التي تختبر الصراع بين الخير والشر، كما نراها أيضاً في الكثير من الصيغ السينمائية، للتعبير عن امتداد صوتين أو حضورين في تكوين فيزيائي واحد يحتمل صراعاً بين قيم إيجابية وأخرى سلبية، في حين أن اسم «أور» يعني بالعربية نور على اسم نور الشهدي … لكن ضمن مبدأ المرآة، لكن من يرى الآخر، فعملية سلب «نور» لهوية «أور» يهدف إلى فعل تجريد أور، وتعرية منطقه، وأن يتخذه قناعاً، حيث جاء في الرواية:
من أنت؟ أنت لست أور… أنا أور شابيرا
بل أنا أور شابيرا، وأنت من انتحلتني، وانتهك هويتي .. من أنت.. قل؟
أنا أور كما قلت.
قل ما اسم أبيك إذن؟
نيتسان
اسم أمك
ليطال
اسم جدك
…
اسم جدتك
…
أرأيت أيها الأحمق.. أنت لست أنا فمن أنت؟
أنا أنت …أنا مرآتك».
وبذلك فإن معنى الحوار بين هذين الحضورين يشي برغبة «نور الفلسطيني» الاقتراب من عوالم المحتل، ومنظوره كي يؤسس مقاربة تنزع نحو بيان تهاوي التكوين العميق للمحتل، وهشاشة خطابه، ولعل الروائي الفلسطيني باسم خندقجي قد وجد في هذه الصيغة استراتيجية سردية تؤمّن له قيم التشييد السردي كما البنائي والدلالي -أيضاً- عبر تمكين هذا الجانب، غير أنّ الشخصية تنشأ من وقائع تقود إلى هذا العمق في رصد البعد الثنائي، نتيجة اغتراب في الهوية على المستوى الظاهري الذي ينحو إلى اختبار قيمة متنازع عليها تتعلق بالمعنى، والوجود، فالوجه الأشكنازي، والتمكن من اللغة العبرية يمهدان إلى اختراق الآخر وتعريته.. مما يسوّغ فعل كتابة الرواية، التي تمثل مستوى أو معادلاً موضوعياً للبحث عن حقيقة الأشياء، لاسيما قصة مريم المجدلية، التي تمثل حافزاً أو دافعاً لامتلاك شخصية (أور شابيرا) للكشف عن حقيقتها.
إن امتلاك أو العثور على بطاقة هوية في السترة (المعطف) ليس سوى إجراء مادي، لكن البواعث الحقيقة تتمظهر في تلك الحوارية بين الذاتين النقيضتين، بما في ذلك وجهات النظر التي تتملك المنظورين، تجاه وقائع الأشياء، لكن هذا يؤطر في بنية مكانية تنهض على بعثة الاكتشاف لمكان يمتلك مدلولين: مدول طارئ ومدلول حقيقي؛ ولهذا فإن أعمال التنقيب عن تاريخ يتصل بالتاريخ التوراتي، ومرويته ليس سوى طبقة زائفة لن تتحقق، أو لن تجد شيئاً؛ لأن جغرافية الأرض لها هوية فلسطينية، كما نقرأ في العديد من التوضيحات التي تتصل بأسماء المدن والقرى. تبرز المواجهة حين تبرز شخصية سماء إسماعيل الفتاة الفلسطينية التي تلعب دوراً في إنهاء صيغ تشظي شخصية نور، بالتضافر مع عوامل أخرى تعجل في إنهاء أعمال البعثة، ولاسيما التوترات التي تشهدها مدينة القدس، وحي الشيخ جراح على وجه التحديد، التي أدّت في ما بعد إلى اندلاع مواجهات، لكن قبل كل ذلك نعاين عن قرب ملامسة نور للمكان الذي انتزع منه، لكن الأهم تلك المنظورات القائمة على العنصرية والعدائية، بمعنى أن تعي ذلك من خلال التموضع في موقع الآخر، ومن ذلك مواجهات شخصية سماء إسماعيل الفلسطينية مع الأخرى (أيالا) الصهيونية، ومن هنا تتصاعد الرواية في محاولة الذات لأن تتعالى، وتنفي تكوين الآخر الطارئ بالكلية.
استراتيجية الكتابة
إن حكاية مريم المجدلية تمثل باعثاً نحو قراءة أركيولوجيا الخطاب الذي يحتمل تأويلات كثيرة، وهي إحالة للرغبة في تعضيد ذلك بتكوين هوية المكان، وإزالة الضبابية المصطنعة والمختلقة تجاه جغرافية المكان، فمريم المجدلية أو هذه الشخصية التاريخية تتملكها مرويات شديدة التعقيد والاضطراب، إذ تمثل قيمة موازية للحيرة التي تتملك نور الشهدي، فتصطبغ بضبابية الحقيقة، وبهذا فإن الراوية تنجح في تمكين وعي القارئ تجاه قيمة هذه البناء السردي، حيث تشكل الشخصية المركبة (نور- أور) قوة لامتصاص وعي القارئ، وهذا يُحسب للرواية نتيجة محافظتها على البناء السردي عبر إبقاء خط ناظم يتخذ من شخصية نور، ووعيها نافذة على اكتناه المكان، وقيمه، ومنها صراع في عمق التاريخ، فمريم المجدلية في التكوين المسيحي تعدّ واحدة من تلاميذ يسوع المسيح، وقد شهدت عملية صلبه، وأول من شهدت قيامته حين ذهبت إلى القبر، ووجدته فارغاً – تبعاً للمروية المسيحية- ومن هنا فإن نور الشهدي يختبر حضور هذه الشخصية بأثر من رواية «شيفرة دافنشي» لدان براون، وما أضافته من دلالات جديدة على هذه الشخصية فاضطرت الكنيسة لإنكارها، وبذلك فإن الأثر الكامن في البحث عن وقائع آثار وجودها (مريم المجدلية) يشي بفعل العودة والبعث من جديد، وهو يحاكي صيغ استعادة المعنى أو الحقيقة، على الرغم من التشويش الذي تثيره القيم الصهيونية في إضفاء طابع على الأرض يغاير حقيقتها، فمريم المجدلية تخضع لمنظور مزدوج في عمليات التفسير والتكوين والأثر، كما هي أيضا سائر الثيمات في الرواية.
إن فعل الكتابة يبرز في الرواية بوصفه جزءاً من وعي الكتابة، فنور يسعى إلى خط رواية، ويقيم جدليته على العلاقة مع التاريخ، الذي يعلن إنه ليس سوى تخيل مُعقلن كما يذكر، وبذلك فثمة شيء من التشكيك بالتاريخ الذي يشكل مركزية الرواية التي تنهض على سرديتين تاريخيتين متضادتين، فثمة وجود ملفق تسبب بواقع مشوه، ونعني المخيم، واللجوء الذي يؤسس منظور نور للعالم الذي وجد فيه نفسه، فهو يعاني من تداعيات هذا الاحتلال ضمن بنى مادية وأخرى معنوية، غير أنه يوجه طعنة للحضارة حين يتساءل «هل سيغدو المخيم بعد سبعين عاماً من أكبر المواقع الأثرية، للدلالة على عقلنة التوحش الإنساني؟». إنها نزعة واضحة للتقويض والطعن في المفهوم الإنساني، الذي يفرغ من معناه حين يتجاهل الحقائق بأثر من قيم الحداثة، نظراً لتورطها في الكثير من المآسي.
تطفو على سطح الرواية جملة من الثيمات التي تعالج خصوصية الواقع الفلسطيني، ومنها ذات اللاجئ، الذي يدرك ذاته خارج المخيم، علاوة على ملاحظة التفاصيل الكولونيالية الصغيرة، التي تبتر طبيعة الحياة، كما تخلي السلطة عن مناضليها، ومنهم والد نور، فضلاً عن فكرة الاستحواذ على جسد الآخر ممثلاً بالفتاة اليهودية، بالإضافة إلى الإحساس بالتفوق عبر اختراق المستوطنة المحفوف بشيء من لذة النصر، مع بيان التمييز بين اليهودية والصهيونية، كما نقد التمثيلات النمطية للعربي، وغيرها من الثيمات التي تنتشر في المتن السردي الذي يلجأ إلى عدد من التقنيات السردية، لاسيما التسجيلات الصوتية والرسائل، كما الحوار بين نور وأور في غير موضع بغية إضفاء قيمة حيوية على النص، غير أنّ الرواية تعتمد تعالقاً بنيوياً بين الوجودين كونهما يحملان علاقة سببية، فمنظور الصراع يبقى جزءاً قائماً بين الهويتين، ولنقرأ هذا الحوار بين أور ونور:
«السر يكمن بالمرآة. المرآة هي المعادلة، هي التفاصيل.. هي الكائنان أحدهما مسيطر والآخر خاضع. انت أور مسيطر وأنا نور خاضع.. ولهذا، يجب أن أحطم المرآة».
الخلاص
ويمضي نسق التكوين الثنائي من خلال مقولة النكبة والمحرقة، وبينهما يكمن التنازع على مفهوم الضحية، غير أنّ الناجين من الهولوكوست تحولوا بدورهم إلى جناة، وجلادين، فلا جرم أن يقول نور إن «النكبة هي النصب التذكاري للمحرقة» وكلاهما كان نتاج الحداثة الغربية من منظور نور الشهدي، الذي كلما مضى لعمق الآخر تمكن من وعي ذاته، وحقق غايته، فالرغبة في دخول عمق مستوطنة مجدو، التي نهضت فوق ركام قرية للجون، جاء رغبة في التعرف على النواة الأساسية التي أنتجت هذه الدولة، وإذا كانت «أيالا» تقع في متن متخيل نور /أور الاستيهامي الجنسي، غير أن منطلقهما مختلف، فنور يرغب في التحول من خاضع إلى مهيمن، لكنه يعي أن قناع (أور) ليس سوى مسخ، فكلمة قناع كما يُذكر في اللغة العبرية تعني المسخ، أو ذلك المسخ الذي أنتجه الاحتلال والتهجير والتدمير والمخيم واللجوء، وعليه أن يتخلص منه، بأن يتجه نحو سماء إسماعيل الفتاة الفلسطينية التي تقف في خطابها لمواجهة المروية الصهيونية، وقد تكون هي مريم المجدلية التي تعني العودة والنقاء والطهارة، في حين أن دلالة الاسم تتضح في تركيب قناع بلون السماء للدلالة على الحرية، في حين أنّ اسم إسماعيل يحيل أيضاً إلى المرجعية العربية، ومن هنا يسعى «نور» إلى نزع قناع «أور» لنراه في نهاية الرواية يجلس في السيارة مع سماء إسماعيل بعد خروجهما من الكيبوتس، فيقول لها بالغة العربية: «أنتِ سمائي ومآلي».
كاتب أردني فلسطيني