رواية «كيميا» للمصري وليد علاء الدين: جماليات هدم الحدود

حجم الخط
0

لا يحيل عنوان هذا المقال إلى مضمون الرواية، باعتبارها عصارة رحلة قام بها السارد، ولا إلى الحدود والبوابات التي اجتازها، ولكنّه يحيل إلى رحلة تشكيل الرواية.
فهذه الرواية ذات وهج صوفي يشعّ من عتباتها وفضاءاتها وشخصياتها، فيحضر المشهد الصوفي في عتباتها من خلال أبيات جلال الدين الرومي في التصدير، وتحضر ابنته في العنوان، ومن خلال ما تحمله كلمة مولانا ذات المرجع الصوفي والتاريخي. ويزداد هذا الحضور الصوفي في فضاءات الرواية، حيث تدور أحداثها في تلك الأماكن التاريخية العامرة بقبور كبار المتصوفة. ولعل القارئ ينشدّ بعمق إلى رحلة الراوي، وهو يبحث عن قبر كيميا ويبحث عن حكايتها. والرواية بذلك تبادر إلى اقتحام فضاءات غابت عنها الروايات العربيّة. وللباحث في هذه الرواية أن يتعمّق في فضاءاتها وحكايتها وفتنها المختلفة، لكننا سنكتفي في هذه القراءة برصد رحلة الكتابة الرّوائيّة من جانبها الفني باعتبارها رحلة هدم للحدود الأجناسيّة وتوظيفا لمختلف أجناس الكتابة في بناء النص الرّوائي. فليس غريبا أن الرّواية العربيّة المعاصرة فقدت صفاءها الأجناسيّ وغلب عليها التّهجين السّردي والتّعالق النصي في مستويات عديدة، فهي رواية تتحاور فيها الأجناس الخطابيّة وتتداخل. وهذا ما يجرّنا إلى مقولة باختين التي تعتبر الرّواية «جنسا إمبرياليّا» يلتهم كل ما يعترضه. فهذا التّعدّد الأجناسيّ أضحى مؤشّرا جماليّا لافتا، لقد أصبحت الرّواية نصّا مفتوحا و«عالما تخييليّا تتداخل فيه عدّة أجناس سرديّة عن طريق التّجاور أو التّمازج أو التّلاحم»(أحمد اليبوري، ديناميّة النص الروائي).
و»لم يتوقف تفاعلها مع الأجناس البلاغية الحيّة، الصحافية والأخلاقية والفلسفيّة.

فقدت الرّواية العربيّة المعاصرة صفاءها الأجناسيّ وغلب عليها التّهجين السّردي والتّعالق النصي في مستويات عديدة، فهي رواية تتحاور فيها الأجناس الخطابيّة وتتداخل.

ولربّما كان في مستوى قوة تفاعلها العميق مع الأجناس الأدبية والملحمية والغنائية…»( أحمد اليبوري) فالخطاب الرّوائي لا يقطع الصّلة بالأجناس الأخرى، إنما يستمدّ منها ما يثريه ويحقّق تنوّعه وجاذبيته فهو يتكوّن «بتماس مع الخطابات الأخرى، مستمدّا بعض عناصرها ووحداتها، ومدمجا لأكثر من جنس أدبيّ وغير أدبيّ، داخل بنيته المرنة، المستوعبة للخطابات واللغات المتعددة التي تكتسب عند دخولها إلى الرواية، نسقا أدبيا له استقلاليّته ووحدته الأسلوبيّة» (محمد برادة، الرواية أفق للشكل والخطاب المتعددين)
في هذا التوجه في التشكيل الأجناسي تنخرط رواية «كيميا» لوليد علاء الدين جامعة بين طياتها العديد من الأجناس الخطابية هادمة الحدود بينها… فهي رواية مثلما يثبت ذلك مؤشرها الأجناسي وبنيتها السرديّة، وهي لذلك تحفل بالتخييلي والإنشائي الجمالي، ولكنّ الكاتب يشكلها بالاقتراب من أجناس أخرى، فهي مزيج من الحلم واليوميات والرحلة والكتابة الصحافية والتاريخية وغير ذلك من الأجناس.

الراوي حالما

ينهل الراوي من تقنية الحلم بما تفتحه من آفاق تخييلية وما تثري به النص من عجائبية، وهو بذلك يفتح الرواية لتكون في جزء منها معتمدة على تقنيات تيار الوعي الذي يحتفي بالهذيان والحلم، فيمتزج السرد في «كيميا» بالأحلام وتتحول الكتابة إلى مطاردة للأحلام وسرد لها وتفكير فيها. فالراوي يدون أحلامه ويسردها ويعلق عليها «قررت أن أسجل تفاصيل الحلم سريعا قبل أن يتبخر. أنهيته بسرعة ثم بدأت في مراجعة عباراته معيدا الدقة إلى تسلسل الأحداث ومصوبا أخطاء العجلة».

وهي حينا كتابة صحافية فالراوي يرسل تقاريره الصحافية ومشاهداته بعنوان «الطريق إلى مولاي» معتمدا طريقة الريبورتاج الصحافي.

الراوي الرحالة

وتصبح الكتابة الروائية حينا آخر، كتابة قصص الرحلات تنشد إلى هذا النوع الأدبي التاريخي بما فيها من تدوين لمراحل الرحلة، ووصف لها ولإطارها ولوسائل الترحال وأماكن الإقامة، بما فيها من تدوين لمشاهدات وملاحظات وعادات. فنجد الراوي واصفا الترحال داخل المواقع التركية، ومتحدثا عن غرف النزل والشخصيات التي قابلها في هذه البقاع، من ذلك حديثه عن الرحلة إلى قونية فهو يصف هذا السفر بالصعب «الصعب في السفر إلى قونية لم يكن طول الطريق وحسب، بل عدم وجود فرصة لمعرفة أي شيء من الركاب أو موظفي الأوتوبيس.. وهو يصف الطريق «يغيب البحر من المشهد بعد قليل وتتقلص المساحات المأهولة بالبيوت والمباني، وتتراجع مستويات العمران وفخامته كلما أوغلت في اتجاه قونية. يبدأ الثلج على استحياء شديد».

الراوي صحافيا

وهي حينا كتابة صحافية فالراوي يرسل تقاريره الصحافية ومشاهداته بعنوان «الطريق إلى مولاي» معتمدا طريقة الريبورتاج الصحافي.. «شرعت في تدوين بعض يوميات السفر لرغبة في نشر تقرير صحافي عن الرحلة». فتصبح بعض فصول الرواية المعنونة بالطريق إلى مولاي ريبورتاجات ومشاهدات صحافية متسلسلة معدّة للنشر الصحافي.

يوميات وتاريخ

وتنهل الرواية من أساليب الكتابة السيرذاتية فيحضر أسلوب اليوميات فيكتب الكاتب عن تفاصيل أيامه هناك بدقة. «الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل، نزلت بعناء من سيارة التاكسي الصفراء التي أقلتني من محطة أوتوبيس قونية إلى فندق…». ولعل القارئ ينتبه إلى الكم السيرذاتي في الرواية، حيث التطابق بين السارد والمؤلف وليدعلاء الدين في نواحي عديدة من أهمها الاسم والمهنة ومكان الإقامة الأصلي. ولعلّ هذا التطابق يعدّ من أهمّ مظاهر التذويت التي حدّدها فيليب لوجين. ولكن كتابة التذويت لا تعدم التاريخ الجماعيّ، فتتسرب إلى النص أنماط من السرد التاريخي وتحضر نماذج من الكتابات القديمة. ويمكن ختاما أن نعتبر رواية «كيميا» من هذه الناحية الجماليّة ضربا من جماليات التّعدّد الأجناسي وتطويعا للأجناس وتوحيدا لها تحت راية السرد والرواية.

٭ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية