رواية «مصل الجمال» لعبدالزهرة علي: تناوب الغرائبي والواقعي بين الاستعارة والصرخة

في إحدى رسائله المنشورة الى صديقته ميلينيا، يوصم كافكا ذاته بالقذارة التي بلا حدود، وهو وصف على الرغم صراحته، لكنه مضلّل تماما إذا ما أدركنا أن ذاك الكاتب لا يقصد ذاته اعتباطا، بمعزل عن عالمه، بل يشير إلى معاناته العميقة، واغترابه الإنساني وسط معاناة تاريخية ومجتمعية ولغوية عامة قبل أن تكون خاصة، حتى تغدو ذاته الموصومة استعارة فنية فائقة الدقة، لأن تكون حافزاً إبداعياً، يعكس نقاء شاغله الكتابي، الذي يثير وينقل لدى الآخر مشاعر الخوف والاشمئزاز والاضطراب، استعارة فنية لاستخراج تلك المشاعر الكابوسية من قرارها المعتم المكبوت إلى شدة النور الساطع، ولذلك نجده يكمل في جزء آخر من الرسالة نفسها قائلا «أصرخ كثيرا بشأن الطهارة»، لتصبح صرخته عملا ادبياً لإحساس المذنب الذي لا يرتكب جريمة، ولكنه يشير بقوة إلى من يجرمه ويحاكمه.
لعل هذين الاستخدامين «الاستعارة والصرخة» في العمل الأدبي لدى كافكا، صارتا جزءا من الأعمال العالمية التي كتبها كتّاب كبار في ما بعد عند مطلع القرن العشرين، وتكرس منهجا لدراسة آثارها في أعمال روائية حتى الآن.
استدعاء
تقف هذه المقدمة عن «الاستعارة والصرخة» بما يشبه الاستدعاء والاستذكار، أو شيء من هذا القبيل لكاتب هذه السطور عند قراءة رواية الروائي عبد الزهرة علي «مصل الجمال ـ أولاد كلب» الجديدة، خاصة في فصلها الافتتاحي الأول، فالاسم الأول هو صرخة على نحو ما، حتى لو كانت محاولة فنية للخلاص من بؤس مطبق، صرخة مخبوءة لشخصية قطيع اللسان، ثائر، وحيرة كاتب الرواية كونها صوت الكتابة الخفي، ومحاولة الغناء ردا على الموت، والعزم المكبوت لشخصية «حسنّه»، والاسم الثاني هو بيان استعاري، على الرغم من أن المستعار له، يحمل رمزية ومجازية منحطة، قد لا تنطبق عليه تبعا للبيئة الثقافية والشعبية من مكان لآخر.
هنا صار هناك
على هذا النسق حاول الروائي عبد الزهرة علي في روايته «مصل الجمال ـ أولاد كلب» أن يبني استعارته الروائية بواسطة خلائق مشوهة وأشلاء مسوخ ومباءة لمكب نفايات، يبتدئ بها جملته الافتتاحية من الرواية في الفصل الأول، إذ يخوض في الأسفل كلب رمادي في برك الوحول أمام هجوم شبحي كاسح لقردة وكلاب مسعورة، وتتناثر في الأعلى سحب ساكنة تحت سماء هي الأخرى رمادية مثل، لون الكلاب الغريبة الخلق التي قضمت أحلام المدينة بعد خواء الطرقات وشيوع النهش والاغتصاب والعوق في مشاهد كابوسية، يسّاقط على رعبها بعض من بقايا قطرات مطر منقطع لتوه، وخيط ضوء شمس وحيد، متسلل إلى الأمكنة، وسحب عابرة تحيل الى ذكرى إنسان عاش هنا وصار يروى هناك، تتعقب الذكرى تاريخا مروياً منشطرا إلى أجزاء متناثرة لا تجمعها إلا رغبة أولية في مقاومة منشودة على نحو معين، ولا تعبر عنها إلا المسوخ الجديدة التي تبحث من خلالها إنشائية السرد عن صرخة وجودية مخبوءة بين الكائنات الخائضة في الحمأ هنا، وشرعة التغيير كالإكسير المعلق هناك بين الكلمات، تحت سماء رمادية.
وبهذا المشهد الاستهلالي للرواية، يضع عبد الزهرة علي مغاليق ومفاتيح عمله متجاورين في إطار واحد، مثل ايقونة استهلالية مجردة، يمعن الغرائبي فيها ليكون مهادا لما سيكشف عنه الواقعي في الفصول الأخرى وربما يكون العكس صحيحا، وربما في الأقل كما تقصره هذه القراءة على صورة الخراب الهائلة، بوصفها الرواية الحقيقية التي تعقبها السرد بدقة، بين تناوب الغرائبي والواقعي، وليس المعيارية الفنية التي تقود إلى تلفيق حل مصل الجمال، وكان حرياَ – كما ترى هذه القراءة- أن تكتفي الرواية بهذه الصورة المسخ، بوصفها استغراقاً وصفياً وكتابيا، يفضي إلى أصالة ونقاء الكتابة، إذ يغدو هذا النقاء تنويراً ومعماراً جديداً ضد الخراب والعبث، ضد الكلاب المسعورة القديمة والجديدة، تكتفي بذلك مثل أناشيد الأم التي سترد حتما على الموت، مثل غرائبية وشرود كاتب الرواية ومشاهداته في الزقاق والسوق للفقراء، وتقاطعاته الوهمية، كتعقيب مقاوم للبؤس والشقاء.
كان الفصل الافتتاحي هو مؤشر البناء الفني للرواية ومؤدى صيغتها السردية، فما هو غرائبي وتجريدي في العمل كله، يمنح تصوراً يبدو عبثيا لأول وهلة غير أن ترابطه الواقعي مع العناصر القصصية الأخرى، يجعل المسار الفني للرواية متنقلا بين المنحى الغرائبي الذي يختتم بالمعالجة الواقعية، والعكس بالعكس مثل التشخيص المفاجئ في غمرة التدفق التجريدي، أو التصريح الحاد في سريان التلميح، وحفل العمل بهذه التقنية الرائعة في فصوله المرقمة المتلاحقة النمو، عبر رؤى وصور سرعان ما تغيب، واستنطاق كائنات أخرى ستختفي في محيط الوقائع، لكي تصل إلى ما يشبه النهاية، والتوقف الحاد عند تسريب أشياء من عالم المسخ الآخر «عديد من الأوراق مشبكة بدبوس أسود من شدة الصدأ»، ستغدو إكسيراً بعد فك الطلاسم والرسوم الغريبة.
وعلى الرغم من أن العمل، سواء في مشهده الافتتاحي، أو بقية المشاهد قد أتقن تسلسل بناء ونمو أحداثة وشخصياته قبل أن يتخلخل في الحل المعياري الأخير، إلا إنه لم يسلم من تضحيات فنية وأسلوبية لا تستطيع الصيغة السردية الدقيقة تجاوزها، منها ما أظهره السرد لشخصيات مثل (حسنّه وثائر وبدرية) كونهم من شرائح فقيرة جداً وهذا المستوى الطبقي، يؤهلهم التساوق وظيفياً مع البناء الروائي، غير أن ما يكشفه موقع وشخصية الراوي كاتب الرواية عن هؤلاء بأنهم قريبون من مشاغل القراءة والكتابة، وعلى جانب عميق منها، يخالف حتما وظيفتهم القصصية كما أظهرها السرد.
آمل ان تكون هذه القراءة إصراراً على كاتب حقيقي مثل عبد الزهرة علي ورواية مهمة تعيد تركيب حطامنا بأبهاء الكتابة، ليغدو نص «أولاد الكلب» فقط بوصفيته وتقنيته هو الجمال.

٭ كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منصور:

    نعرف عبد الله عبد الودود خير الاسماء ما عبد وحمد عبد الزهراء شرك لا تشهروا

    1. يقول محمد:

      الاخ الكريم منصور
      اللغة المستعملة اي الكلام هو حقل كبير تجري فيه استخدامات لسانية كثيرة في التعبير مثل الحذف والاختزال وغيره فاذا سمعت شخصا ينادي يا صاح او اللهم او سوى ذلك فتجد اللسان يحذف ويختصر وطبعا هذا راجع الى طبيعة الكلام اللسانية والامر يشمل الاسماء مثل عبد الزهرة الذي اصله عبد الله الزهرة ولكن جرى الحذف على اللسان فقط مثلما حدث في ياصاح وغيرها

إشترك في قائمتنا البريدية