توفّر لنا هذه الوقفة مع هذه الرواية فرصة التفكير في كتابة الرواية للأحداث القريبة منها، إن كانت تاريخا، أم هي مجرد كتابة لحدث. فهذا السّؤال يطرح بحدّة تعقيبا على الروايات التي تنهمك في أحداث قريبة الوقوع. فالبعض يريد الإلقاء بها في خانة الرّوايات التسجيليّة، اعتبارا لطرح يحدد مسافة ما بين تاريخ الكتابة وزمن وقوع الحدث. فهي «تمتدّ لتتسع إلى الماضي البعيد جدا والمقيس بالقرون الغابرة، كما أنها يمكن أن تضيق لتشمل الزمان القريب والممتد في الحاضر، الذي يمكن قياسه بسنوات محدودة بين زمان الأحداث المقدمة في الرواية وزمان الكتابة» (سعيد يقطين قضايا الرواية العربية الجديدة الرباط الأمان /الجزائر منشورات الاختلاف /لبنان الدار العربية للعلوم ناشرون /ط1 سنة 2012).
فهذه المسافة «كلما كانت بعيدة تدخل دائرة التاريخ وكلما كانت قريبة من زمان الكتابة وقع التردد في إدراجها في نطاق التاريخ أو غيره» (سعيد يقطين).
ويقترح يقطين اعتماد مفهوم الحقبة الزمنية التي تمتدّ على عقود، معيارا لفضّ هذا الإشكال، معتبرا أن «الرواية العربية التي تتعامل مع حقب لا تتصل بهذه الحقبة الحديثة تدخل في نطاق التاريخ، أما الروايات التي تستقي مادتها من الحقبة الحديثة والمعاصرة فلا يمكن إدراجها في النطاق نفسه». ولكننّا نرى في هذا المجال أنّ هذه المسافة تحتاج إلى توسيع لتشمل الأحداث المعاصرة، التي مرّت منذ سنوات والتي كان لها شأن مهم في إحداث تحوّلات. فلا يمكن قصرها على الماضي البعيد. فأحداث هذه الحقبة التي بدأت منذ الاستعمار، على حد قول يقطين، متراكمة ودخلت طيّ النّسيان، وكتبت بطرق مختلفة وغير مقنعة، وهي مؤثرة وتحتاج الأجيال قراءتها والاطلاع عليها، لذلك انكب عليها الروائيون، ولم يحشروا أنفسهم في القرون البعيدة. فالرواية تكتب تاريخ الأحداث المعاصرة، وللكاتب أن يكتب ما عاصر من أحداث مضت، وكتابة التاريخ تشمل كل ما وقع بدون استثناء. فإن كان التاريخ البعيد يدخل عبر المراجع والوثائق، فإن التاريخ المعاصر والقريب، يدخل عن طريق التذويت والشهادات. وهو ما نلحظه في كتابات عديدة تكتب التاريخ كتابة سيرذاتية. فالرّوائي يعتبر أيضا مؤرخ العصر حسب المقولة الشهيرة لبلزاك.
هذه المعادلة تنطبق على المدونة الروائية لعبد القادر بن الحاج نصر، الممتدّة عبر عقود. فقد شرع الرجل منذ السبعينيات في كتابة روايات مختلفة ارتبطت بالعصر لا من حيث أسلوبها الواقعي وحسب، بل من خلال التوظيف المتواصل للأحداث التّاريخيّة المعاصرة بطريقة خاصّة يمارسها الكاتب، مذيبا التاريخي وجفاءه فيغدو صدى تردده الشخصيات، وآهات تنطق بها. فالكاتب يطوّع التّاريخي ليكون مناسبا لمدرسته الواقعيّة. وهو ما يتجسّد في هذه الرواية الصادرة مؤخّرا، التي حملت عنوان «من قتل شكري بلعيد».
لا تجيب الرواية بدورها عن هذا السؤال الرهيب، الذي غدا عنوانا في الحياة السياسيّة التّونسيّة منذ اغتيال المناضل شكري بلعيد، ولا تقدّم وثائق تخوض في الموضوع لكنّها تكتب ذلك في إطار المحتمل، وهي سمة الرّواية الواقعيّة التي تكتب ما هو ممكن الوقوع.
وضع الكاتب لروايته عنوانا رهيبا، ظلّ سؤالا تونسيّا ومحلّ وقفات احتجاجيّة «شكون قتل شكري» وجعل شخصية شكري ترفرف على كامل الرّواية. فمن حين إلى آخر يعود إليه في صفحات مكتوبة بخط سميك. هذه الصفحات جعلها لكتابة لحظات من سيرة شكري ومشاعره، وهي لم تخل من تخيل من ذلك ما تخيله من حوار بينه وبين محمد البراهمي، الذي اغتيل لاحقا وفي فترة متقاربة.
يبتكر الكاتب شخصية متخيلة وهي شخصية عثمان ويجعلها نموذجا للشخصيات المتنفذة الخطيرة، التي طفت على المشهد بعد الثورة، وعرفت الثراء الفاحش ويتهمها بتدبير اغتيال شكري، والقيام بأعمال أخرى خطيرة في هذه المرحلة. فهذا الشخص الذي غادر البلاد قبل سنوات من الثورة، هربا من محاكمة أخلاقية إثر اغتصابه لطفلة يعود بعد سنوات مدعيا البطولة والنضال:
«في المنزل المريح الذي استقر فيه في مدينة حمام الشط، توسد عثمان ذراعه وهو جالس في الصالون الفخم الذي جلبه على ظهر الباخرة، الباخرة نفسها، التي ركبها هاربا متخفيا عن أعين أمن الدولة… الآن فقط آخذ نصيبي من بلدي ذاك الذي حرمتني منه حادثة بسيطة… لم أندم على أنني مارست الجنس مع فتاة صغيرة جميلة طرية ذات عينين شهلاوين ووجه مدور وجسد كأنه مصقول من المرمر».
في الخارج قضى عثمان سنوات في التجسس والقيام بممارسات مختلفة للكسب غير المشروع وهو يعترف بذلك»كنت أتجسس لفائدة الآخرين عن كل ما يحدث في بلدي «.
يخفي عثمان هذا الماضي، ويعود في جلباب الثورة، ويمارس أشياء خطيرة أدت إلى نفور عائلي منه فابنته فاطمة فرّت إلى الخارج متحدية له، وقد ظلت تشاكسه وتستفزه، وتعلن تمردها عليه، وزوجته التي تدرك خياناته لها ولوطنه تنفر منه.
يخطط هذا الرجل لاغتيال شكري، ويساهم في ذلك وينتهي بعد اغتيال شكري طريدا كريها ويغادر البلاد بعد الحادثة بيوم. نهاية تلخصها له رقية في آخر الرواية: «الآن كفّ نزيف الصبية وسكن الألم ليبدأ النزيف في جسد عميل المخابرات وسيرتفع الأنين حتى الصراخ». لقد كتب بن الحاج نصر احتمالا لما جرى. فليست كتابة الروائي للتاريخ وللأحداث المرجعية كتابة رسميّة تروي ما وقع تحديدا، ولكنّها كتابة جماليّة تمتص الحدث التاريخي أو المرجعي، وتبعث فيه حياة جديدة، فالروائي ليس مؤرّخا وليس مطالبا بالحقيقة مثله، ولكنه يمتص الواقع التاريخي ويكتبه، فإذا كانت كتابة قضية بلعيد في هذه الرواية كتابة احتمال فإن الرواية تقدم صورة سائدة عن فترة ما بعد الثورة في تونس، ولعلها تكتب شيئا من مرحلة «الترويكا»، التي تميّزت بحدوث بعض الاغتيالات المريبة، وبروز متنفّذين جدد يمارسون تنفّذهم وفسادهم تحت يافطة الوطنية والثورة.
ولكن الرواية تحمل في الحقيقة أبعادا أخرى، فهي لا تنغمس في السياسي بالقدر الذي تنطفئ به أسئلتها الاجتماعيّة، فهي أيضا تحمل تصويرا لمجتمع تلك الفترة ومشاغله وأوجاعه، وتنظر في الوجه الاجتماعي المتوتّر للعلاقات الإنسانية، وغير ذلك. ولعل بن الحاج نصر يواصل في هذه الرواية الطويلة، التي وردت في عدد ضخم من الصفحات (أكثر من 400 صفحة) كتابته لمرحلة الثورة بأنينها وأوجاعها وهو ما شكل محور أعماله الأدبيّة الأخيرة.
٭ كاتب تونسي