رواية «وجه لوجه آخر»: الأبوة الضائعة

حجم الخط
0

هذه رواية أخرى من روايات الشعراء، خطها الشاعر القيرواني السيد السالك وحبك خيوطها، مختارا لها ساردا من داخلها، مشاركا في أحداثها ومنهمكا في البوح، مثل شخصياته التي استدرجتها الأيام إليه وجعلتها تأمنه على حكاياتها وأسرارها وحيرتها، منضمة إليه في غربته وعزلته وأسئلته الوجودية العويصة. وبذلك تهاوت الشخصيات ونزعت أقنعتها في الرواية واحدا تلو الآخر، ملتقية معه في سؤاله الكبير. فالشخصيات تبدو في البداية صلبة متماسكة متبوئة مكانتها الاجتماعية، ثم تنكشف أحزانها وهواجسها، بل لعل الأحداث تضيء وجهها الآخر الذي ظهرت به في البداية. ولعل هذا الأمر يعتبر سر العنوان وأساس بنائه «وجه لوجه آخر» فإذا الشخصيات تعيش أزمات وجودية متشابهة، هي أزمات ضياع الهوية أو لنقل ضياع الأب تحديدا، وإذا السرد يعري هؤلاء الأشخاص ويكشف أوجاعهم.

هاجس الأبوة الضائعة

يغلب على شخصيات الرواية هاجس خفي، هاجس البحث عن الأب، أو لنقل فقدان الأبوة. فلا يعرف أغلب هؤلاء أباءهم وقصص حياتهم، وهم بين أمل ويأس في الوصول إلى الحقيقة. يعيش هؤلاء ضياعا واغترابا وعزلة داخلية. يتقدمهم السارد سعيد الذي مات والده في ظروف غامضة، وتفاصيل لا يعلمها. يقول «أبي مات ولم يعرفني، هو لا يدري أني ولدت، أمي المسكينة كتمت خبر حملها حتى تتأكّد…».
يظل السارد باحثا عن قصة أبيه دون أن يعثر على تفاصيلها، متهما أحد المعمرين، «أما روبار الذي ربما يكون وراء موته، فلم يره أحد من يومها. هذا ما يتداوله أهل القرية حين يذكرون فرنسا والاستعمار وما خلفه من جرائم لا تمحى».
هذه الصورة نفسها تتكرر مع صابر، فهو لا يعرف والده الحقيقي ووالده لا يعرفه أيضا. فهذا صابر يبحث عن والده ويعيش على سردية فراره من القرية واختفائه، «كان لا بد لي أن أجده لأرد اعتباري وأثبت نسبي. كان عليه أن يعود وكان على أمي أن تبحث عنه، يجب أن لا يموت قبل أن يعلم الجميع أن أبي هو مفتاح بن عمران الكرباجي». لكن الأب كان يحيا معه ويجالسه في المقهى في المدينة التي فرا إليها معا، وهي التي جمعت ايضا مختلف هذه الشخصيات. «وهما معا.. معا وكل يبحث عن الآخر ويرسم له الوجوه المختلفة. يتخيله وهو أمامه يلعب معه الورق يوميا.. كانا قائمين على اللهفة والرغبة الملحة. الخوف من التعري جعل الواحد منهما يرى الآخر دون إن يراه. يعرفه ولا يعرفه».
هذه القضية نفسها، تشغل الراقصة هاجر ذات السيارة والمظهر الجميل، وهي الهاربة بدورها من قريتها، فبعد وفاة والدها وهي طفلة وزواج أمها فرت من زوجها الذي حاول النيل منها. فأغلب شخصيات هذه الرواية ظلت تحمل في حياتها أقنعة وهواجس، انكشفت عبر الفصول المتلاحقة. فهي شخصيات تشعر بالغربة والضياع والتمزق والانفصال العائلي. وقد تجسدت هذه المعاناة في ازدواجية أسماء أغلب هذه الشخصيات.

لعبة الأسماء

هذه الازدواجية تحقق شيئا من طرافة السرد أحيانا بذلك الحوار الذي نشهده بين السارد سعيد وغريب، الاسم الذي اختاره لنفسه. فهو يلقي به ويتركه ضائعا في المدينة، ثم يعود إليه معتذرا في نهاية الرواية. فها هو في لحظة يودع اسمه الثاني «غريب علينا أن نفترق يا صاحبي. حملتك وحملتني. كنا رفيقي درب. وصلنا النهاية دعني أرجوك… سأعود إليّ. سأعود إلى ذلك الذي وعدته ذات ليل. أعرف أني أهنته ولم يكن المسكين سببا في شيء. كنت واهما… ظننت أن الأسماء التي حملنا مصدر سعد أو خيبة. كنت غبيا حين ظننت أن الأسماء تصنع المستقبل وتبني الأمجاد. تعال يا سعيد». لقد جعل السيد السالك من لعبة الأسماء مصدر جمالية وتخييل. فقد أضفت على سرده طرافة خاصة. لكن لعبة الأسماء لم تشمل السارد فقط. فالكثير من الشخصيات الأخرى تخفي أسماءها الحقيقية، وتتقنع وراء أسماء أخرى وقد انكشفت في السرد. فالكل تقريبا بين اسمين، اسم أول واسم بديل. فسعيد يبدل اسمه بغريب وأحلام بهاجر ومفتاح أصبح مصباح، وحازم أصبح يوسف وحاتم أصبح صابر…
هذا الازدواج يقطع النظر عما سجلناه من طرافة أسلوبه يحمل دلالات كثيرة. فالأسماء تظلّ معبّرا دائما عن المعنى والدلالة وتظل صلتها واضحة بالشخصية، لكنها في هذا المجال تؤكد أزمة الهوية وآلامها. فالأسماء المصطنعة التي ارتدتها بعض الشخصيات مشتقة من معاجم الألم والمعاناة فغريب من الغربة وهاجر من الهجرة وصابر من الصبر، وغير ذلك من المعاني التي تذكي المعاناة.

فلسفة الرواية

يمكن القول إذن إن هذه الرواية تخوض في سؤال وجودي، سؤال الأبوة والهوية العائلية. والسيد السالك بهذا يقترب من إحدى فئات الهامش الاجتماعي، حاملا عبر هذه الرواية قلق الهوية او لنقل قلق المجتمع الجديد الذي يفقد انسجامه. وهذه القضية في الحقيقة لا تحجب عنا ما في الرواية من لفت انتباه إلى قضايا اجتماعية كثيرة، لكن اجتماعية القضية لا تخفي ما بين طياتها من دلالات وأبعاد رمزية. ففقد الأب وضياعه قد يحيلنا على حالة الضياع التي تشهدها الأجيال المعاصرة. فهي تعيش ضبابية هويتها الجماعية، تلك الهوية الوطنية والاجتماعية المهددة بالذوبان في عالم اليوم، ولعل من أسباب ذلك المستعمر وهذا ما تحمله صورة القاتل روبار من دلالة. فاغتيال روبار للأب ولهاجر يدخل في إطار هذه الرمزية.
ويمكن القول ختاما إن هذه الرواية أيضا تحتاج أسئلتها إلى مزيد البحث والتنقيب. فهي تخفي أسئلة عميقة ومتعددة، شأنها شأن ساردها وشخصياتها.

كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية