تشكِّلُ رواية «وطن مزور» للروائية الكويتية عائشة عدنان المحمود فاصلةً للتحوُّل الزمكاني، المرادف للمُعْضلات الاجتماعية التي تكتنفُ قناعة الكاتب بقوة الموروث والتقاليد من جهة، والمفاهيم والرؤى المكتسبة من جهة ثانية، ما يدفعه إلى استمطارِ معانٍ كثيرة متباينة المستويات للكشف عن تفاصيل وقائع ما تداخلتْ فيها الجهتان داخل الفضاء السردي واللعبة الفنية للنص.
تحاولُ المحمود هدْمَ أسوارِ العُزْلة الطبقية والجغرافية، بين وطنٍ أم (أصيل)، وآخرَ شقيقٍ، في محاولة الانتصار لشخصية «عُمَر»، الذي تبددتْ أحلامُهُ بعد شقاء وتعلُّل بالوهم بينهما، لأجل الفوز بورقةٍ ثبوتـــية تؤكــــِّدُ انتماءَهُ لوطنهِ الجديد، على الرغم من أن التاريخ واحد. تلكَ الورقةُ غيرُ الرَّابِحة حتى آخرِ سطْرٍ في الرواية، التي سقطتْ بين أروقة التسلُطِ البيروقراطي، كما تُبْديهِ الكاتبةُ في ثنايا المشهَدِيات السّرْدية المُتلاحِقة.
التحقيب الزمني
بصيغةِ المُتكلِّم تبدأُ الرواية على لسان السارد العليم «عمر سالم العاطف» الذي يتداولُ سيرةَ عائلة (العاطف)، وموطنها الاصلي في اليمن، التي تمرحلَ تاريخها العائلي وفقَ حقباتٍ زمنية ثلاث، بداية من الجد «سيف العاطف»، وزوجتهِ القديرة والنجيبة «صالحة» في أربعينيات القرن الماضي في وادي المداد في الضالع جنوبي اليمن، حيث كانت للعائلة أملاك شاسعة تستثمرها في الزراعة، قبل أنْ تتمدّدَ استثماراتها إلى العمل في الميناء، حتى يتمكن «سيف» بجهده من تملُّكِ أسطول من سيارات وحافلات النقل للناس والمؤن وغيرها، التي جاءت له بالرزق الوفير، إلى أن يموتَ في حادثِ سير، وتتولى زوجته القوية «صالحة» متابعة أعماله وقيادة العائلة. المرحلة الثانية مع الابن «سالم» ابن سيف العاطف الأصغر، الذي أصبح سائقاً في الجيش في منطقة جغرافية من الوطن الجديد، بعد انتقاله إليه في منتصف الستينيات، حيث بدأ النفط بالظهور، على أمل الحصول على بطاقة هوية مدنية جديدة كمواطن هناك. فالمرحلة الثالثة وهي البؤرة الزمنية التي يسردها «عمر»، إذ يتناول مشكلته الخاصة في متابعة السعي المرير والحثيث، الذي بدأه والده لنيل الهوية العتيدة.
إذن هي مراحل حقبوية ثلاث من الجد الى الأب فالحفيد، تلامس بمبناها الحكائي البعد الأنثروبولوجي لمنطقة جغرافية عربية، بناسها وماضيها وحاضرها، وخصائص كل مرحلة على حدة، كما تناولتها أوردة السرد.
التشكيل السردي
ففي المرحلة الأولى طغى مفهوم التأسيس والانطلاق أُسرياً ومُجتمَعِياً للعائلة، وفي الثانية تولدت أفكار التوسع الوظيفي والهجرة من وطنٍ أوّل اليمن، إلى وطنٍ ثانٍ مجاور بعد اكتشاف النفط ـ لم تدل عليه الكاتبة بالاسم ـ وفي الثالثة توفرت بواعث الحاجة الى استقرارٍ عائلي أخير وضروري، بعدما استتبت أمور أفراد العائلة، وتفرغ كل من تفرع عنها لوضعه الجديد. وعليه ينهمك «عمر العاطف» في البحث عن وسائل تحقيق الرخاء المعنوي ما أسعفته مشاعات آماله في وطنه الجديد، متحدياً بصمت الصالحين كل ما وجه به من تهميش وابتداعِ أنماطٍ مُفرطة باللامبالاة، بطموحه المستحَق، ومن استخفاف به وكأنه مواطن في عالم افتراضي ليس إلّا، مع ما رافق ذلك من عذاباته أمام اجترار الرشوة الطليقة بين دوائر أرباب الفساد وعبيده، الذين مارسوا إجهاض فكرة الشاب المُخلص لوطنه الحاضر المُنتظَر، وهو يطمح لنيل أوراق تهبه «شرعية منتظرة، ووثائق يُمنّي النّفس بأنها قاب انتظار قصير لا أكثر». لا تسمي المحمود هذا الوطن الجديد، ولا تؤكد على أنه وطنها هي، إنما ترمي في وجه من يهمه الأمر إشكالية الهوية والانتماء فيه، لإنسان آدمي، مجرد إنسان انطلقت به أقداره من محيطه القروي الضيق في يمنه السعيد إلى رحاب المساحة القومية التي استشرفها خيراً وبركة في اجتماع بلاد متجاورة، شقيقة، بلُحمة تشاركية عفوية، عاشها ذلك المواطن الطيب، الصلب الولاء لوطنه الثاني بكل مستويات لحظاته اليومية، صخبا وسكونية. إنه المواطن الصالح في صفوة انتمائه وإخلاصه وهو ينتظر أياما طويلة تلك الورقة الوثيقة، التي قد لا يحتاجها كل يوم في تفاصيل حياته، ولكنه بالتأكيد يريدها بقوة في كل محطة وجودية مفصلية قد تعرض له على قلتها.
تاريخ مأزوم
وإذ تعتمد المحمود في روايتها لغة رشيقة مباشرة، تتوخى تجليات التأثير الفعلية للأحداث، إلا أنها لا تخفي أن الرواية تلبي في داخلها حاجةً روحية في استرجاع قضية إنسانية عامة، قبل أن تصبح وطنية خصوصية اعتمدت فيها إيحاءات التسميات على مستوى لائق وجادّ، لا تنفذُ منه تفاسيرُ مُفتَرَضَة تتأول سلباً من هو المقصود في الانتظام الوطني العام الرافض لمواطنية بطلِها «عمر» في دولته الجديدة.
تعلُقاً بذلك تذهب الكاتبة مباشرة في متن السرد، إلى محنة الانتماء إلى الوطن كفكرة خطيرة ومهمة، كأداء على لسان راويها العليم، الذي أبدى آراءه بصوت سردي وحيد، وبوضوحٍ موضوعيّ تسوَّرَ مشهديات الرواية كَسِيرةٍ ذاتية هي في الواقع تجسيد مُرَمَّز لجيل كامل، لطالما عانى مشكلة الورقة الهوية، كوثيقة زمنية ومكانية في بلد عربي بين القسر والضرورة.
وبعيداً عن (الدَّرْوشَةِ) الكتابية تؤكِّدُ الكاتبة أنَّ حتمية التاريخ العربي المشترك، تلغي دوماً مفاعيلَ الجغرافيا، وتثير الدّهشة التي نهضتْ على المفارقة، حين يشعر القارئ فورَ انتهائه منْ الرواية بعدَمِ الكِفاية القومية أو الدينية التي تروي ـ أقلَّهُ افتراضياً ـ جذورَ التعالُقِ الإنساني معَ أخيهِ الإنسان ولو كانا في مجازٍ وطنيّ وأخلاقيٍّ واحد حقوقاَ وواجبات بعيداً منْ إِفْكِ ورقةِ انتماءٍ إلى وطَنٍ مُزوّر!
٭ كاتب لبناني