كان الشاعر الأمريكي روبرت بلاي Bly (1923 ـ 2021) الذي رحل مؤخراً، أحد أبرز روّاد حركات التجديد العميق والراديكالي التي طبعت النتاج الشعري الأمريكي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، على صعد المحتوى والشكل معاً؛ خاصة الإبحار بقصيدة النثر الأمريكية عبر أكثر من عباب عاصف مضطرب، نحو شطآن شتى حيوية وغير مألوفة؛ ثمّ البرهنة على أنّ هذا الخيار في الكتابة الشعرية يحتمل التمرّد التعبيري والشطط السيريالي، مثلما يحتمل القصيدة السياسية وبلاغة الاحتجاج على حرب فييتنام. ويندر أن يختلف دارسو شعره على حقيقة كبرى أفادت بأنه أمهر مَنْ قاد النموذج الأمريكي لقصيدة النثر بعيداً عن حدود، وبالتالي قيود وإسار، الصيغة الفرنسية (عند شارل بودلير وأرتور رامبو خصوصاً)؛ وصالحها، استطراداً، مع تراثات شعرية أخرى، أمريكية (والت ويتمان، إدغار ألن بو) وأمريكية جنوبية (بابلو نيرودا، سيزار فاييخو) وإسبانية (فدريكو غارثيا لوركا) وألمانية (راينر ماريا ريلكه، جورج تراكل).
ولم يكن غريباً أن يعود بلاي، في السنوات الأخيرة من حياته، إلى القصيدة الموزونة والإيقاع العالي والعَروض المركّبة؛ وأن يدرج في مختاراته الشعرية التي صدرت سنة 2018 عدداً من قصائده المبكرة التي كانت سماتها الشكلية، لجهة الاشتغال على الموسيقى تحديداً، هي ذاتها التي سوف يتخلى عنها في معظم إصداراته بعد المجموعة الأولى «الصمت في الحقول الثلجية» 1962. هذه سمة غير طارئة، وغير نادرة، عند العديد من شعراء قصيدة النثر، على نطاق الثقافات كافة في الواقع؛ ولعلّ المثال الأقرب في المشهد الشعري العربي المعاصر كان عودة الشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944-2007) إلى قصيدة التفعيلة في بعض قصائده الأخيرة، كما في «نهر الصراخ المكتوم والهمس والدهشة» التي تسير خاتمتها هكذا: «تلك الأعمدة المجبولة/ من عَرق الأيدي الناضح في قصر كوابيسي/ وفضول الرائي من خلف ستار/ بخصوص رؤاهُ حين يرى، ما لم يَرَهُ/ وكما في كلّ مغامرة، في آخر كلّ مطافٍ/ يأخذني هذا الزهر السرّي إلى بيتي».
ضرورات الفعل الملقاة على عاتق الشعر، سواء استقرّ على موسيقى الوزن العالية أم إيقاعات النثر الخفيضة، واتخذ نبرة غنائية أم ملحمية أم تأملية، وانخرط في الهاجس الكوني أم شاء الانحياز إلى اليومي
جانب آخر في امتياز بلاي الشعري كان تأثّره العميق بأفكار الفيلسوف الألماني جاكوب بوهمه (القرن السابع عشر) وإسباغه طابعاً فينومينولوجياً علي الموضوع الشعري وتقنيات بناء الصورة؛ وذلك رغم السطوة الواسعة التي حظيت بها المدرسة التصويرية كما قادها إزرا باوند، وعلي نقيض من شيوع مفهوم «الصورة العميقة» علي نطاق واسع في النصوص الشعرية الأمريكية، وربما الأنغلو ـ ساكسونية إجمالاً. وكان بوهمه قد ثار على شيوع العقلانية والتجريبية المحسوسة في الفلسفة الألمانية، وركّز على الإدراك الحدسي للعالم الروحي الداخلي، الأصدق والأغنى.
جانب ثالث، وهامّ بالمعني النظري، كان ثورة بلاي على نظرية ت. س. إليوت الشهيرة حول «المعادل الموضوعي». وفي مقالة شهيرة بعنوان «العالم الميت والعالم الحيّ» ميّز بلاي بين نوعَين من الوعي الشعري: ذاك الذي يضيء «أخبار الذهن الإنساني» وذاك الذي يضيء «أخبار الكون». والنوع الثاني يقتضي من الشاعر أن يتوغّل عميقاً في أغوار الدماغ لكي يعثر ــ إنْ عثر! ــ على «بعض الأخبار السيئة عن النفس، وبعض العذاب الذي تكفّل العقل الخطابي بوقاية الشاعر منه». غير أنّ على الشاعر أن يذهب أبعد، وأن يتوغّل «في سطوح أعمق من مستوى الأنا، مدركاً في الآن ذاته مستويات أخرى من أنا الآخرين».
جانب رابع هو الدور المباشر، العملي، الذي لعبه بلاي في تطوير التجارب الشعرية الأمريكية الشابة، وذلك من خلال مجلّته «الخمسينيات» التي مارست نفوذاً أدبياً ونقدياً واسعاً، وتواصلت رسالتها في الأزمنة التالية حين تبدّل اسمها لكي يغطّي العقود اللاحقة: «الستينيات» «السبعينيات» «الثمانينيات» و»التسعينيات». هنا تكمن سلسلة أدوار «تعليمية» والبعض ذهب إلى درجة تسميتها بـ»التلقينية» شاء بلاي أن يتولاها تلقائياً إزاء تصويب الحركات التجريبية التي شاعت في المشهد الشعري الأمريكي خلال العقود التي أعقبت انتصاف القرن العشرين خاصة. وكان لافتاً تماماً أن يتخذ هذا الشاعر الراديكالي، دائم التجريب والتجديد والتمرّد، مواقف نقد عميق للعديد من عواقب الحداثة الهوجاء، المتسرعة، الشكلانية، الرافضة عن سابق قصد للمعنى والتاريخ والسياسة؛ بما في ذلك تلك التيارات «الحداثوية» كما يصحّ القول، التي تحيل الرجل، وقارئ الشعر المعاصر، إلى نموذج جديد من «جون الفولاذي» الكائن البرّي ساكن قاع البحيرة في حكاية الأخوين غريم الشهيرة.
وفي قصيدة بعنوان «القمر الأعلى والقمر الأسفل» كتب بلاي: «إذا كان جسدي هو الأرض، فما العمل بعدُ؟ شمسي ستنحدر أسفل الأرض، وتسافر وهي تئزّ على امتداد درب الظلمة السفلى المحيطية. هنالك مئة من القدّيسين المنبطحين في استرخاء، يلقون نُتَف الظلام على الدرب…». وتصرّح ابنة الشاعر أنه خلال الأشهر الأخيرة كان مصاباً بالخرف، ولعلّ هذا يفسر غيابه عن الإسهام المباشر في التعليق على اعتلالات أمريكا الكثيرة، في السياسة والاجتماع والأدب عموماً، ثمّ واجبات الأداء وضرورات الفعل الملقاة على عاتق الشعر؛ سواء استقرّ على موسيقى الوزن العالية أم إيقاعات النثر الخفيضة، واتخذ نبرة غنائية أم ملحمية أم تأملية، وانخرط في الهاجس الكوني أم شاء الانحياز إلى اليومي؛ فهذه جميعها، وسواها، سياسة بأيّ معنى يشاء امرؤ لا يزيح التاريخ جانباً.
(جانب آخر في امتياز بلاي الشعري كان تأثّره العميق بأفكار الفيلسوف الألماني جاكوب بوهمه (القرن السابع عشر) وإسباغه طابعاً فينومينولوجياً علي الموضوع الشعري وتقنيات بناء الصورة … وكان بوهمه قد ثار على شيوع العقلانية والتجريبية المحسوسة في الفلسفة الألمانية، وركّز على الإدراك الحدسي للعالم الروحي الداخلي، الأصدق والأغنى)…
ياكوب في الألمانية (أو يعقوب في العربية) عاش في القرنين السادس عشر والسابع عشر (1575-1624)، وليس فقط في القرن السابع عشر)… وهو فيلسوف لاهوتي تصوفي من أتباع الثيولوجيا البروتستانتية اللوثرية (نسبة إلى الراهب المصلح مارتن لوثر)… واتُهم بالهرطقة والتجديف وتم تهديده بالنفي والإقصاء، فأين هو من ثورته على “شيوع العقلانية والتجريبية المحسوسة في الفلسفة الألمانية”…هناك بعض الالتباس في التعبير عن الفينيومينولوجيا في الاقتباس، إذ لم يكن هناك شيء اسمه (فينيومينولوجيا) قبل هيغل سوى بعض الإرهاصات بتعابير مغايرة في كتابات كانط… إلخ
إضاءة حقيقية