من المؤكد أن العلاقات والشراكات بين دول العالم، بما فيها الدول العظمى والكبرى والدول متوسطة القوة، سواء الاقتصادية منها، أو العسكرية، أو السياسية؛ يحكمها ويتحكم فيها الاقتصاد، أما القول بخلاف هذا، فلا وجود له على أرض الواقع، أي أن هذه العلاقات تحكمها المصالح أولا وأخيراً. والحاكم فيها؛ هو المبدأ الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة) أما المبادئ والقانون الدولي والأخلاق، التي تلتزم بها وبموجباتها، القوى العظمى، فالغرض منها؛ تجميل وجوه هذه القوى، وتوفير مساحة واسعة في الإعلام؛ لتسويق خطاب الغش.
وعلى وقع التوتر المتصاعد اليوم بين الناتو وأمريكا من جهة، وروسيا من الجهة الثانية؛ يرى أحد المحللين الروس، أن الاوضاع باتت ناضجة؛ لإقامة حلف عسكري واقتصادي بين بكين وموسكو، لمواجهة الناتو وأمريكا، ومن الممكن أن يضم هذا الحلف المفترض، دولا أخرى مثل كوريا الشمالية وإيران وروسيا البيضاء وباكستان وسوريا؛ ليكون هذا الحلف موازيا في القوة العسكرية والاقتصادية، لحلف الناتو، كما كان عليه الحال حين كان في ذلك الوقت حلف وارسو قائما أثناء الحرب الباردة، بل سيكون أكبر من حلف الناتو، وأكثر تأثيرا من الناحية المعنوية والأخلاقية. وفي نهاية المطاف، سينهي هذا الحلف خطط حلف الناتو، وخطط أمريكا للسيطرة على العالم.
لا اعتقد أن هذا الحلف سيرى النور، أو أن الصين في وارد الدخول في أي حلف مع روسيا، أي أن هذا الافتراض، ليس له حظ في أن يكون له وجود في الوقت الحاضر ولا في المستقبل. صحيح أن الصين من الناحية الواقعية بحاجة إلى الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، كما أن روسيا هي الأخرى بحاجة إلى هذه الشراكة؛ لأسباب تتعلق بالتجارة والاقتصاد، والأهم بالطاقة، إضافة إلى أسباب أخرى، لعل أهمها هو، التكتل اقتصاديا وتجاريا وماليا وسياسيا ودبلوماسيا، والتعاون العسكري، كمحور واحد في مواجهة التغول الأمريكي. أما الدخول في حلف عسكري واقتصادي فهذا شكل آخر يختلف بصورة كلية عن هذه الشراكة، فالصين، ليس في واردها الدخول في حلف من هذا القبيل مع روسيا.. أما لماذا؟ فلأنه، سيفرض على طرفي الحلف التزامات عسكرية، حين يتعرض أحدهما إلى اعتداء، أو الدخول في حرب مع الند الآخر، أي أمريكا ومن ورائها الناتو، بمعنى أكثر دقة ووضوحا؛ سوف تكون الصين مجبرة على الدخول، في الوقت الحاضر، أو في أي وقت لاحق؛ في حرب مع أمريكا والناتو، عندما تكون هناك حرب بينهما من جانب، ومن الجانب الثاني روسيا. هذا الأمر ليس له وجود لدى صاحب القرار الصيني، اللهم إلا حين تتعرض الصين، إلى ضربات من الناتو وأمريكا، وهذا الأمر محال في الوقت الحاضر، وحتى في المستقبل المنظور. الصين لا تريد أن تدخل أي صراع؛ لا الآن، ولا في الأمد المتوسط، ولا حتى في المستقبل المنظور، إلا إذا أجبرت على ذلك، وهذا الأمر هو الآخر، بعيد الاحتمال في ظل ظروف الصراع الحالية، الذي يحتل الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال، مساحة واسعة فيه، إن لم أقل؛ هو كلي المساحة من حيث الأدوات والوسائل، وقواعد ومعايير العمل الحاكمة في الصراع؛ وفي الحصول على النتائج المرجوة من خصمي الصراع، أمريكا والصين، وحتى في ظل تطورها المقبل. الصراع بين أمريكا والصين، صراع اقتصادي وتجاري ومالي، في الدرجة الأولى، أما استخدام أمريكا لتايوان وحقوق الإنسان والإيغور والتبت وغير هذا، فهناك الكثير، من قبيل تطويقها، أي الصين بالتحالفات؛ ما هي إلا عناصر ضغط واستنزاف للاقتصاد الصيني؛ للحد من تطور هذا الاقتصاد وتحجيمه، وليس الدخول في مواجهة عسكرية أو التهديد بها، على الأقل في الوقت الحاضر، وفي الأمد المنظور. أما الصراع بين روسيا وأمريكا، فهو ليس في الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال، بل في قص قوائم روسيا العسكرية، بما يجعل، هذه القوائم غير قادرة على الحركة في فضاءات ما كان يعرف في وقته؛ الاتحاد السوفييتي، ومجاله الحيوي في أوروبا الشرقية، حتى يتم لاحقا خنقها بحدود جغرافيتها، مع دفعها إلى سباق تسلح، يستنزفها اقتصاديا، كما كان عليه الوضع في الاتحاد السوفييتي السابق، الذي كان واحدا من أهم العوامل في انهياره؛ هو سباق التسلح، والكلفة المالية لهذا السباق؛ بما يؤدي مع تقدم الزمن إلى هز كيانها الداخلي وخلخلة أسس أعمدته.
الصراع بين روسيا وأمريكا، لقص قوائم روسيا العسكرية، وجعلها غير قادرة على الحركة مع دفعها إلى سباق تسلح، يستنزفها اقتصاديا
الصين وضعها وقدرتها الاقتصادية والتجارية والمالية، على عكس روسيا تماما، فهي قادرة على توفير جميع عناصر ومستلزمات هذا السباق، من غير أن ينعكس سلبا على أوضاعها الداخلية؛ وما تعمل أمريكا عليه هو تقزيم هذه القدرات. عليه فإن صراع الصين مع أمريكا يختلف تماما عن صراع روسيا مع أمريكا، إضافة إلى أن الصين، وببساطة؛ تريد أن تتفرغ لتقوية قوتها الضاربة، أي أن تحوز قوة ردع موازية لأمريكا وروسيا.
إن دخولها في حلف مع روسيا يقوض أو يقلل من مساحة مناوراتها في هذا الاتجاه، كما أنه يؤثر في علاقاتها الاقتصادية الواسعة والآخذة في التطور والتوسع مع دول الاتحاد الأوروبي. كما أن الحلف المفترض؛ سيؤثر في علاقاتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع دول أخرى، من تلك التي تربطها مع أمريكا علاقة شراكة أو تحالف أو صداقات أو أشكال أخرى من العلاقات. هذا التأثير سيكون كبيرا جدا، إن لم أقل كليا في الحصول على نتائج كلية غير منقوصة؛ بضغط وتأثير من الجانب الأمريكي؛ يقود إلى إخراج الصين لجهة الاقتصاد والاستثمار والتجارة. الامر الآخر المهم والذي لا يقل أهمية عما أوردته في اعلاه، بل هو في علاقة تبادلية التأثير معه؛ هو أن أي تحالف صيني، أو أي حلف صيني مع روسيا؛ سوف يؤثر في مخططها في الحزام والطريق؛ أي يرفع أو يزيح منه الحيادية، بمعنى آخر أكثر وضوحا؛ يقلص مساحة حركته، أي يكون مع دول محددة، قد لا يكون البعض منها يقع على مسار هذا الطريق الجغرافي، بفعل الضغط والتأثير الأمريكيين. أما من الجانب الثاني، وهو دخول بعض الدول في هذا الحلف المفترض، ما هو إلا أحلام لا وجود لها في الواقع المتحرك على الأرض، أو لا وجود لعوامل واقعية وموضوعية ترجح كفة هذا الافتراض لجهة تحويله إلى واقع. لأن دول العالم الثالث، وفي أغلبها، وما أقصده الدول الحرة في قراراتها وسياسة تحديد مصالحها، وهي بكل تأكيد قليلة بالقياس إلى الدول الأخرى التي تربطها بشكل أو بآخر، علاقات لها تاريخ طويل، مع أمريكا والغرب، هذه الدول على قلتها؛ لا تفضل أو أنها لا تريد أن تدخل في أحلاف عسكرية واقتصادية؛ ما يجعل منها؛ أداة في صراع ليس في مصلحتها، بل سيجعل منها؛ ضحية لهذا الصراع، وبالذات حين يتحول إلى مواجهة عسكرية. صراع القوى العظمى كالصين وروسيا وأمريكا، الأساس فيه، منطلقا، وتخطيطا وإجراء؛ هو السيطرة والحصول على المغانم، في المجالات الحيوية، التي يتم تخليقها عبر هذا الصراع. عليه فلا مصلحة لأغلب دول العالم وبالذات دول العالم الثالث؛ في الدخول في هذه الأحلاف أو هذا الحلف الصيني الروسي المفترض، أو الذي يفترضه المحللون الروس.
الرئيس الروسي، صرح من بكين، التي يزورها لحضور حفل الافتتاح لأولمبياد الشتاء في العاصمة الصينية بكين؛ بأن العلاقات أو الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية، كما وصفها؛ أكبر من أي حلف. الرئيس الروسي لم يجانب الحقيقة، بل إنه أفصح عن هذه الحقيقة، أي حقيقة الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية؛ التي فرضتها عليهما؛ ظروف الصراع مع الخصم الأمريكي؛ والتي ستظل شراكة استراتيجية، لا ترتفع، أو لا يتم تحويلها إلى حلف بين الشريكين. هذا التصريح بحد ذاته؛ يوفر الإجابة على السؤال الذي ينحصر في؛ هل تتحول هذه الشراكة الاستراتيجية إلى حلف يوما ما، أو في زمن مقبل، ذات يوم؟ هذه الشراكة؛ من المستبعد أن تتحول إلى حلف، كما بينا في أعلاه. لو كان الوضع بين الشريكين، على غير ما هو عليه الآن، لتم بحث موضوع إقامة حلف بينهما، منذ وقت ليس بالقليل، وهو موضوع مهم لروسيا، على عكس الرغبة والقرار الصيني؛ في ظل التجاذبات والاشتباكات والصراعات بين أمريكا والغرب بصورة عامة، ولو أن الأخير بدرجة أقل وبسقوف واطئة، وبين المحور الروسي الصيني.
كاتب عراقي