الجمود وغياب الرؤية لأية تسوية سياسية للحرب، والاصطفاف والتكتل العالمي على محورين، فضلا عن خطاب الشيطنة الذي يتبعه الطرفان في صراعهما. تلك هي عناوين الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة، التي ما زالت تنبئ بسيناريوهات متعددة وتداعيات خطيرة في كل حين، كلما ازداد حجم العمليات العسكرية وتطور.
موسكو متأنية في تصعيد عملياتها العسكرية لكسب الحرب بشكل نهائي، رغم قدرتها على فعل ذلك بسرعة، ولعل أهداف هذه الاستراتيجية تكمن في رغبة روسيا في تفادي المواجهة المباشرة مع حلف الناتو، التي قد تترتب على تدخله المباشر في الحرب، إذا أوشك الروس على تحقيق نصر حاسم.
لم تقم السلطة في الكرملين بحملة تجنيد واسعة تحشد فيها قوتها الكاملة للاندفاع نحو احتلال كامل أراضي أوكرانيا، ولم تحاول إلحاق الضرر الكبير فيها عن طريق قصف شبكة الكهرباء والخدمات العامة الأخرى وغيرها. يبدو أن الاستراتيجية الروسية تميل إلى عدم التصعيد الشامل في أوكرانيا، مع الحفاظ على مستوى من التحكم في العمليات العسكرية، والاحتفاظ بالمكاسب المتحققة والسيطرة على إدارة وتوجيه المعارك ضمن أغراضها الاستراتيجية الكبرى في سياق الصراع مع الغرب، مع شن هجمات متواصلة على الأسلحة الأمريكية والأوروبية المورّدة إلى أوكرانيا، وضرب مواقع تحشيد القطعات العسكرية ومن ضمنها مراكز تجمع القوات غير النظامية الأجنبية ومراكز التدريب. صانعو السياسة الغربيون توصلوا بتأكيد جون ميرشايمر إلى إجماع حول الحرب في أوكرانيا مفاده، ديمومتها واستمرارها لمدة أطول، وإيصالها إلى طريق مسدود بحيث تقبل روسيا «المنهكة»، في نهاية المطاف، باتفاقية سلام بشروط الولايات المتحدة وحلفائها في «الناتو». هذه أمانيهم في ما يبدو. ولكن وقائع الميدان تكشف بعد عامين ونصف العام من استمرار الحرب، أنّ الولايات المتحدة وحلفاء الأطلسي أصبحوا أمام خيارين، أحلاهما مر، فإما أن يجنحوا للتسوية السلمية ويقبلوا بشروط روسيا المذلة، وهو ما يعني اعترافهم بتغير قواعد القوة والسيطرة في النظام العالمي، أو أن تدخل أمريكا الحرب مباشرة لمحاولة إيقاع الهزيمة بالجيش الروسي، وبذلك تكون «قد فتحت عليها بابا يشي بمستويات كارثية» بتوصيف الباحث العراقي إياد هلال الكناني.
النهج الذي سلكته واشنطن مع موسكو منذ نهاية الحرب الباردة وصولا إلى الحرب في أوكرانيا، محل انتقاد كثير من المفكرين الأمريكيين، وأبرزهم نعوم تشومسكي، الذي اعتبر أن الموقف الأمريكي الحالي يتمثل بمواصلة النزاع «حتى يقتل آخر أوكراني» ونشوب حرب نووية محتملة. وأنّ هناك مسارين قد تسلكهما الحرب الأوكرانية، الأول يتمثل في مواصلة تسهيل تدمير أوكرانيا، والانتقال بعدها إلى حرب نووية محتملة قد تنهي الحياة البشرية على الأرض، والثاني هو التوصل إلى تسوية دبلوماسية. كل ما يحدث من زعزعة الاستقرار في أوروبا يعود إلى كيفية تعاطي الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع روسيا منذ انتهاء الحرب الباردة، حيث يكشف التاريخ كيف أخلت واشنطن بوعودها لموسكو ودفعتها تباعا إلى التصعيد وصولا إلى الحرب. عند نهاية الحرب الباردة، قدم الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف خطته «دار أوروبا المشتركة»، مقترحا أن تكون منطقة أوروبا وآسيا موحدة وممتدة من لشبونة عاصمة البرتغال في أقصى غرب أوروبا، إلى فلاديفوستوك في شرق روسيا، من دون أي تحالفات عسكرية. فقابله حينها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بوعد مفاده، أن حلف شمال الأطلسي «الناتو» لن يتوسع شبرا واحدا في اتجاه شرق ألمانيا، عارضا خطة «الشراكة من أجل السلام» التي لم تكن بعيدة عن المقترح الروسي، إلا أنها لا تستثني التحالفات العسكرية، بما في ذلك «الناتو» الذي حافظت على علاقاتها به.
حدّة التصلب في موقف الولايات المتحدة وحلفائها في مسألة كسر روسيا وهزمها، مقابل رغبة موسكو المؤكدة في عدم التراجع والسير إلى نهاية الطريق في الحرب، تشكل دافعا قويا للأطراف للقبول بمخاطرة التصعيد طالما أمكن ذلك، كما يؤكد العديد من الخبراء الاستراتيجيين، مع أنّ التصعيد الذي يخشاه الجميع هو المؤدي إلى النهاية الكارثية، لوجود الردع النووي المتبادل الذي يمنع الطرفين من اللجوء إلى استخدام السلاح النووي في أي صراع بينهما. يخلق هذا الوضع المحفوف بالمخاطر حافزا قويا لإيجاد حل دبلوماسي للحرب، لكن للأسف لا توجد تسوية سياسية في الأفق، حيث يلتزم الطرفان بشدة بأهداف الحرب التي تجعل التسوية شبه مستحيلة. كان ينبغي على إدارة بايدن أن تعمل مع روسيا لتسوية الأزمة الأوكرانية قبل اندلاع الحرب في فبراير. لقد فات الأوان الآن لعقد صفقة، روسيا وأوكرانيا، والغرب عالقون في وضع رهيب لا يوجد له مخرج واضح. ولا يوجد حل دبلوماسي في الأفق، ولا مسار ممكن لتحقيق نصر أوكراني، وفي الوقت نفسه ترغب واشنطن بشدة في إنهاء الحرب، ربما لأنها بحاجة إلى التركيز على احتواء الصين، أو لأن التكاليف الاقتصادية لدعم أوكرانيا تسبب مشاكل سياسية داخلية ومشاكل في أوروبا. لا تستطيع موسكو تحمل الخسارة في أوكرانيا، ولذا فإنها ستستخدم كل الوسائل المتاحة لتجنب الهزيمة. بات الصراع أكثر تعقيدا وتصلبا، ولا يبدو أن أي طرف يريد اللجوء إلى تسوية، إلا بعد حسم نتائج الحرب لصالحه، حيث تضاعفت التهديدات، واتسعت احتمالات المخاطر. وفي المحصلة التي نراها، إذا كان هناك قانون دولي ناجع ونافذ، فكان ينبغي أن تُفرض عقوبات على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بسبب غزو العراق وتدميره، وكل ما نتج عن ذلك من عواقب إقليمية بشعة، من انتشار الإرهاب والفوضى، أو قيامهم بالاشتراك مع فرنسا بتدمير ليبيا، وتركها تعاني حربا أهلية وتقسيما عشائريا وقبليا، متسببين بذلك في آثار مروعة بدءا من غرب افريقيا وحتى بلاد الشام، بالإضافة إلى الجرائم الأخرى التي يصعب حصرها، أو خلافا لذلك تجاهلهم حجم ونطاق هذه الجرائم. تجدهم يفرضون عقوبات على الدول بتعلات انتهاكات وما شابه، وهم أصل كل الانتهاكات والدمار الذي حل بأجزاء كبيرة من هذا العالم. يشدد المسؤولون الأمريكيون في كل مرة أن الولايات المتحدة ستواصل «الوقوف إلى جانب هذه الدول، وستواصل المطالبة بالعدالة لضحايا حرب الكرملين العدوانية ومحاسبة المسؤولين عنها، وإدانة أولئك الذين يمكّنون روسيا من مواصلة حربها العدوانية الوحشية ضد شعب أوكرانيا». هذا جانب من نفاق الولايات المتحدة المعهود، حيث تدعي مناصرة الشعوب، ولكنها تشارك منذ عام في حرب تأتي على الأخضر واليابس في غزة المحاصرة، والتي تُقصف بالقنابل والصواريخ الأمريكية، ويُباد شعبها تحت أنظار العالم.
كاتب تونسي