أن تتشكّل الدولة كإمبراطورية فذلك يعني أنْ لا تلتزم هذه الدولة في نظرتها إلى المساحة بحدود ثابتة، وأن لا تحتاج في نظرتها إلى السكان إلى إسناد وجودها كدولة على تعاقد قائم فيما بينهم.
الإمبراطورية تنظر إلى ذاتها ككونية، حتى لو لم تبسط ذاتها الكونية هذه على كل المسكونة. وشرعيتها تنالها من «فوق الى تحت»، من مصدر عُلوي، أو من «فكرة»، أو من محض وجودها كإمبراطورية، وليست شرعية منبثقة «من تحت إلى فوق». وهذا فارق أساسي مع الأمة.
فقد تسعى الأمة إلى التوسّع على حساب غيرها، أو إلى عدّ من لا يشعر بالإنتماء إليها من ضمن نسيجها، رغماً عنهم، لا همّ في ذلك رأيهم، لكن الأمّة، مطلق أمّة، لا تنظر إلى ذاتها ككونية.
فالأمم حاضرة بالكثرة، ولو هي وجدت صعوبة في معاملة بعضها البعض بعين السواسية. وفي المقابل، تنتظر الأمة من أناسها الإنتماء اليها. وليست هذه حال الإمبراطورية، التي تنتظر منهم الولاء وليس الانتماء.
أما مفهوم الدولة – الأمة، فقد ارتبط في مآله كما في تشظياته، بهذا المسعى، لتوطيد السواسية الشكلية بين الأمم الترابية، المؤطرة في دول. واستتبع ذلك تحوّلاً في مفهوم الحرب نفسه.
فالحرب بين الإمبراطوريات هي بمثابة مرجعية تحكيم. عندما لا يسنح الظرف لحلّ التنازع بالحسنى، تنصرف الى الإمبراطوريات، كما المدن – الدول، كما الممالك ما قبل الحديثة، كما القبائل، لحرب هي هي الحكم بين المتحاربين. من هنا، ارتبط تطور الحداثة السياسية المتمحورة حول مفهوم الدولة الأمة، بإنفكاك هذه العروة بين الحرب وبين مرجعية التحكيم. كان يمكن للإمبراطورية أن تخسر إقليم منها وتصادق على ذلك في صلح ما بعد الحرب، وأن تعود فتغنم ذلك الإقليم أو سواه في مواقعة أخرى. كان يمكن النظر، في الزمن الإمبراطوري، الى الحرب كسجال وكتحكيم، والتحلي من بعد ذلك بنوع من «الروح الرياضية». فخسارة الأرض تعوّض ما دامت الإمبراطورية لا تعرف من الأساس حدوداً ثابتة. أما بعد أن توطدت السواسية الشكلية بين الأمم الترابية، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وقيام «منظمة الأمم المتحدة» فلم يعد ذلك متاحاً في نطاق الدولة الأمة. حتى لو خسرت الدولة الأمة أرضاً لها بعد مواجهة حربية، لا يسعها المصادقة على هذه الخسارة بدعوى أن الحرب هي الحكم بين المتحاربين. صارت الحرب في مكان، والتحكيم في مكان آخر.
وروسيا، في كل هذا هي التكوين المتأرجح بين صعوبة استمراره كإمبراطوريته وبين صعوبة تحوله الى دولة أمة. ذلك لأن سمة الإمبراطورية على أنها تعني غياب مفهوم الحدود الثابتة هي سمة استدخلت في عملية تشكيل الأمة نفسها في النطاق الروسي. كان الفيلسوف القانوني والسياسي بوريس تشيتشيرين(ت 1904) دقيقاً في وصف هذا الشعور: «السمة الخاصة للروح الروسية تكمن في غياب مفهوم الحدود. من الراجح أن الامتداد الشاسع لبلادنا قد انطبع في أذهاننا». واللاحدود تعني قبل كل شيء هنا عدم القدرة على استيعاب أن يُفصَل المدى الجغرافي الواحد إن لم تعترضه حدود طبيعية صارمة، كالبحار والمحيطات والجبال الشاهقة، وهذا ينطبق بشكل أساسي على السهول السهوبية التي يتشكل منها القسم الأوروبي من روسيا، أضف لبيلاروسيا وأوكرانيا.
خسارة الأرض تعوّض ما دامت الإمبراطورية لا تعرف من الأساس حدوداً ثابتة. أما بعد أن توطدت السواسية الشكلية بين الأمم الترابية، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وقيام «منظمة الأمم المتحدة» فلم يعد ذلك متاحاً في نطاق الدولة الأمة
فما يستخدم في الأساس كعلامة فارقة بين ما للإمبراطورية من مقام وبين ما للأمة الترابية، هو عملت روسيا على ادغامه، وعلى بناء الأمة الترابية على فكرة غياب الحدود الثابتة.
وهذه مفارقة «الأمة الإمبراطورية». وكم أحسن المؤرخ الأوكراني سيرهي بلوخي في كتابه «المملكة المفقودة. تاريخ للقومية الروسية من ايفان الأكبر حتى فلاديمير بوتين» 2017 تعقب المراحل التي قطعها مخيال «الأمة الإمبراطورية» هذه على امتداد القرون، مع وصله التحقيب والتنقيب التاريخيين بالراهن، من خلال تشديده على أن المسألة الأوكرانية هي المسألة الروسية بامتياز. فبسبب من حجم وموقع أوكرانيا وعلاقاتها التاريخية والثقافية بروسيا، لطالما كانت أسئلة النخب الروسية حول هوية بلادها ومصيرها وحول ماهيتها كإمبراطورية أو كدولة أمة هي أسئلة متعلقة بأوكرانيا. من حيث هي إمبراطورية، لا يسع روسيا النظر الى أوكرانيا الا كامتداد لها، ومن حيث هي دولة أمة لا يسعى المكابرة على أن أوكرانيا دولة مختلفة عنها. من حيث هي «أمة إمبراطورية» تحبّذ موسكو قول الأمرين في الوقت نفسه.
حاولت روسيا منذ القرن التاسع عشر «التحايل» على حداثة الدولة الأمة، بطرق شتى. فبعد أن قاد قيصرها الكسندر الأول الحلف الأوروبي ضد نابليون وصولاً حتى سيطرة قوزاقه على باريس عام 1814، سوّق لمشروع «الحلف المقدس» بين العروش المحافظة في روسيا وبروسيا والنمسا، وطرح مانيفستو يعلن وجود «أمة مسيحية» موحدة، رغم الاختلاف المذهبي بين روسيا الأرثوذكسية وبروسيا اللوثرية والنمسا الكاثوليكية، وأثار هذا المفهوم حنق بابا روما وقتذاك، لكن وضع روسيا القوي بعد هزيمة نابليون فرض في نهاية المطاف المصادقة على هذا «الحلف المقدس»، ليس من دون نجاح وزير الخارجية النمساوي كليمنس فون مترنيخ من ازالة عبارة «الأخوة بين رعايا» هذه الأمة المسيحية المتعددة المذاهب والامبراطوريات، التي أرادها الكسندر الأول، وهو ما لم يعجب الأخير، الذي أصر على تلاوة نصه في المناسبات الرسمية في السنوات التي تلت في روسيا بصيغته الأولى.
هكذا كان أول عهد روسيا بمفهوم «الأمة». ابتغاه الكسندر الأول لقطع الطريق على أفكار الثورة الفرنسية لكن العروش الأوروبية الأخرى سارعت الى التملص سريعاً من مفهومه، والى الظن فيه أنه مسعى لتمرير الهيمنة الروسية على القارة ككل. في المقابل، عندما حاول الكسندر الأول تطبيق فهمه هذا على المسألة البولونية، بأن أعطى القسم الذاهب الى روسيا من قسمة هذا البلد، دستوراً محدوداً، وعندما أخذت بعض النخبة عنده تستنكر لماذا للبولونيين دستور وليس لباقي أهالي الإمبراطورية، فقد واجه الكسندر أيضاً رفضاً من جهة المحافظين، وعلى رأسهم المؤرخ العلامة نيقولاي كارامزين، الذي احتج على التنازل الدستوري للبولونيين لأنه ينم عن رغبة غير مجدية بالنسبة اليه، في جعلهم يتشاركون بالانتماء مع بقية مكونات الامبراطورية، ومتى يمكن للضعيف أن يحب القوي سأل كارامزين قيصره مستهجناً. بالنسبة الى كارامزين كان على روسيا أن تبقى إمبراطورية وبالتالي أن لا تبحث عن أرضية انتماء مشترك بين مكوناتها الأهلية، فهذه ليست للامبراطوريات، التي تقيم مشروعيتها بحد المجد وبالسيف وقوة التراث وصلابة بنيان الدولة، وليس بالعقود الاجتماعية لا مع نفر من أهاليها ولا مع كل الأهالي!
الأمر نفسه نجده في الافتراق بين شاعرين أساسيين أيدا عام 1830 قمع الامبراطورية بشكل دموي لانتفاضة البولونيين: فاسيلي جوكوفسكي، الذي كان الأكثر شهرة وقتها، والكسندر بوشكين الذي سيصبح بعد ذلك الشاعر المتوج على الأدب الروسي بلا منازع.
جوكوفسكي أطنب في مديح قمع عسكر القيصر للبولونيين باعتبار أن ذلك هو امتداد للانتصارات السابقة، فقارن بين الانتصارات على القاجار والعثمانيين وبين اخماد حركة نبلاء بولونيا. اعتمد بالتالي النموذج الامبراطوري الكلاسيكي لوزن الأمور. أما بوشكين، فاعتمد الخلط بين ما هو امبراطوري وبين ما هو قومي. حمل على الفرنسيين والأوروبيين في شعره، الذين يتدخلون في مشكلة عائلية صرف بين الروس وبين البولونيين، مشكلة تحل ضمن العائلة السلافية الواحدة. وفي الوقت نفسه لم يتردد بوشكين في هجاء «البولوني المتغطرس» الذي يريد أن يجمع «قبور كييف المقدسة» بفرصوفيا «المستهترة»! رغم ذلك احتاجت قصيدته لتدقيق المراقب القيصري، لأن بوشكين كان يحاجج على أرضية البحث عن الانتماء المشترك بين الروس الأرثوذكس والبولونيين الكاثوليك، في الوقت الذي كانت الامبراطورية تفضل مع نقولا الأول الولاء لها على الانتماء الذي من شأنه أن يوجد معنى آخر للكتلة البشرية مستقل عن شرعية صاحب السلطان.
ليس تفصيلا أن يكون القيصر نقولا الأول الذي اعتمد هذه القاعدة هو المفضل عند فلاديمير بوتين في سجل القياصرة. حتى حين اقتبست الامبراطورية آنذاك، وفي عهد نقولا الأول، قامع الحركات الثورية داخل وخارج امبراطوريته، ثلاثية وزير تربيتها سيرغي اوفاروف «الأرثوذكسية، الاوتوقراطية، الوطنية» فعلت ذلك وفي ذهنها أولوية الأوتوقراطية على ما عداها، وأولوية الولاء للدولة على الانتماء، و»أمة» حاضرة بصورتها التمجيدية الاجمالية انما على حساب عنصرها الشعبي الملموس، وبخاصة حين يتعلق الأمر بكل ما من شأنه الاستفهام عن العقد الاجتماعي.
وما الذي يعنيه حضور رمضان قديروف اليوم في الحرب بالدونباس غير ذلك؟ نموذج على الولاء لا الانتماء.
كاتب لبناني