في تمثيل حقيقي لفلسفة فرانسوا ليوتار وتعريفاته لما بعد الحداثة بأنها «توجيه الشك نحو الادعاءات الكبرى كافة في الحياة» يستهل الفنان دبل زوكش أغنيته الأيقونية «فُكَك» بتأكيد ذاتيته المُفرطة ونزعته النتشوية المتشككة: «حَسيبلكو حبة بمزاجي… فُكك مش عايز باقي… نِزُقك إحنا بملاهي… حسيت أعدائي في أولى ابتدائي» يُذكّر السرد المُتقطع الذي لا يرتبط بمنهجية واضحة بموقف أمبيرتو إيكو في شرحه لموقف ما بعد الحداثة على الصعيد اللغوي، حيث يقول: «موقف ما بعد الحداثة هو كرجل يحب امرأة راقية جداً، ويعلم أنه لا يستطيع أن يقول لها أحبكِ بجنون، لأنه يعلم أنها تعرف (وأنها تعرف أنه يعرف) هذه الكلمات كتبت من قبل باربرا كارتلاند». فالأغنية تنهمك بالرفض والسخرية وتكريس لمفاهيم القوة ولا تهتم بالتموضع في أي إطار مُسبق، لتصبح الفوضى هي النظام الوحيد الذي يستطيع أن يصف كل هذا الارتباك.
يسترسل دبل زوكش في الذهاب لما هو أبعد في تقويض كل ما هو ثابت فيقول: «تلاميذ … ميذ … كله تهيص… مع إن المنهج سهل من النوع الرخيص»؛ في إشارة سيميائية واضحة يُحْدث دبل زوكش حالة من التوازي بين المنهج والحياة، ليصفه في النهاية بالمنهج الرخيص، ثم يذهب مستدركاً: «إحنا عباقرة بس دون تدريس» في الإطار الدلالي نفسه تتموضع كلمة «دون تدريس» لتنشئ حالة مركزية في نقد التاريخ وتقويض المرويات الكبرى، وحالة أخرى موازية ذات نزعة وجودية عميقة حين يقول «استبينا وابتدينا بالتنفيذ».
تستمر الأغنية بمشهدية تعبيرية تكتظ بمقصديات واضحة، وطِباقية إلى حد بعيد حيث يرقص الفنان برفقة زمرة من الرافضين والمهمشين على أنغام موسيقى مترنحة تنفجر بإيقاعات قوية داخل حافلة مكتظة ومتوقفة؛ لتعود الكلمات من جديد «يا حبيبي …عاوزك تفهم يا حبيبي… مزاجي حلو بس جوة في انفلات… أنا مقفل العداد… حد يفوق الولاد». تتكئ هذه المشهدية على تنظيرات رولان بارت التي ردّ بها على دي سوسير، بأن اللغة أكثر شمولية واتساعاً من الرمز؛ حيث أن الرمز لا يُحقق غايته دون لغة تضمن تموضعه في نسق تأويلي واضح، هذا ما يحققه دبل زوكش في كلماته المتقطعة التي تؤسس بنيوياُ لإطار تأويلي شامل، حيث الحافلة المتوقفة والمهمشون والسلاسل الذهبية على الأعناق… وفي أطار آخر يحفر دبل زوكش بعيداً في أنساق التأويل، فيستلهم تنظيرات المحلل النفسي جاك لاكان المتعلقة بالخطاب واللاشعور، حيث يذهب الأخير إلى أن اللاشعور ينهض بالأساس على أنساق لغوية، فيقدم دبل زوكش تنظيرات جاك لاكان باعتبارها مسوغاً لحالة التكثيف المجازي الذي لا يرتهن لمقصدية واضحة «مزاجي حلو بس جوا في انفلات… أنا مقفل العداد… أنا لسة يسطا ثابت عالثبات».
يحرص دبل زوكش في تعريفه للجنون على خلق مفارقة مع رؤية جاك لاكان القائلة «ليس المجنون من فقد عقله، بل من فقد كل شيء إلا عقله» حيث يقول: «مجنون ودماغي طاقة هربانة مني يا برو… إن بكسب أي عركة إجباري حتموت من الخوف» ففي حين يخلق لاكان أهمية للأنساق المصاحبة للعقل يهدم دبل زوكش العقل نفسه في ذرائعية واضحة لتمكين خطابه ونظرته السلطوية.
وفي حالة أقرب ما تكون إلى التناص يذهب لتحديد موقفه من المرأة والحب، لكن في إطار فكري مُحكم الدلالة: «أنا أحب الآنسات وأكره لت الستات» حيث يقوض كل حالات الثبات المرتبطة «بالستات» ويعلي من معنى «الآنسات» التي ترتبط ضمن دلالات السياق بتحطيم القيود والنزوع للانفلات من الأُطر، وفي السياق ذاته يحرص دبل زوكش على تحطيم المنظومة المفاهيمية للحب: «خليك متأكدة… أنا كدة وحتحبيني على كدة… علاقاتي متعددة… مش فاضيلك أوعي تاخدي على كدة… افهمي الموضوع فهمك بطيء بطيء… يا ريت متنكديش… أخرك يومين ثلاثة بالكثير… وأطير أطير أطير أطير أطير» تحيلنا نظرة دبل زوكش الاستهلاكية إلى عالم الاجتماع زيغمونت بومان ومقولاته عن الحب السائل والمذهبية المادية، حيث يستبدل الإنسان لذته المادية العارمة بقلقه الوجودي، فلا مكان لصداع الحرية كما يصف كيركيغارد القلق ولا متسع للتأمل، لا جَرم أن يُفضي فهم دبل زوكش للمنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة وتنظيرات الفيلسوف فريديريك جيمسون عن هذه الرؤية الاستهلاكية للحب وللحياة. يتصاعد النسق الدلالي في الأغنية ويأخذ طابعاً أكثر منهجية في التعبير عن الذات:» مش بَمشّي الدنيا باللسان… أنا مش بوجع الدماغ… سهل إني أرفع السلاح… مش شاغلني من إللي قال وقال… العبيط يقول كلام… والرجالة عالثبات» لا يبدو دبل زوكش مهتماً بتحديد إطار معرفي وفلسفي لفكرة ومعنى الحياة فحسب؛ بل إنه يهدم النظام الإبستمولوجي برمته، حيث يعتبر «اللسان وجع دماغ». إن هذا التكثيف البلاغي يحيلنا بقوة لفلسفة العبث؛ حيث تنتهي مجهودات الإنسان بالبحث عن المعنى بالفشل المحتوم، لتصبح الرصاصة العبثية التي يُطلقها «دبل زوكش» من سلاحه المرفوع هي الرصاصة ذاتها التي أطلقها «ميرسولت» بطل ألبير كامو في روايته «الغريب».
يحرص دبل زوكش في تعريفه للجنون على خلق مفارقة مع رؤية جاك لاكان القائلة «ليس المجنون من فقد عقله، بل من فقد كل شيء إلا عقله» حيث يقول: «مجنون ودماغي طاقة هربانة مني يا برو… إن بكسب أي عركة إجباري حتموت من الخوف» ففي حين يخلق لاكان أهمية للأنساق المصاحبة للعقل يهدم دبل زوكش العقل نفسه في ذرائعية واضحة لتمكين خطابه ونظرته السلطوية.
يُذكّر الجزء الأخير من الأغنية بمقولات ميشيل فوكو عن لغة الجنون وخطورة أن يفكر الإنسان من خلال لغة معيّنة، حيث تأخذ الأغنية طابعاً تجاوزياً غير عقلاني «تصدق يسطا العيشة في المريخ… صعب تلاقي فيها هلافيت…. عالمريخ مفيش إلا الجامدين… مش فاكرك يلا قولي أنت مين؟ أنا أسد.. أنا عَو… ادي جامد… جيت حضرت…اصحى يالا… إنت ضرب… إدي جامد… جيت حضرت».
يحقق دبل زوكش نموذجاً من الخطاب المفعم بالقوة ورفض الواقع بلغة علاماتية لا ترصد الحياة ذاتها بقدر ما ترصد النتوءات والعبث الذي يعتريها.
لقد فعلها بكلمة واحدة؛ مُحددة النسق وواضحة الدلالة (فُكَك).
كاتب أردني
من الوجه الجديد نرى هنا كتابة متمكنة ومن ناقد موسيقى متمكن حقا كتابة ثرة ثقافيا ومعرفيا لم نعهدها من قبل حقيقة في زاوية الموسيقى من هذا المنبر الفريد
كذلك نتشوّف إلى المزيد بكل توق وبكل تلهّف من هذا الوجه الجديد
كما قلت في تعليقي على المقال السابق، نحن بالفعل نحتاج بإلحاح شديد إلى كتابات متميزة من هذا المستوى المتميز ، كل الشكر موصول إلى نضال جمهور ونتمنى أن نرى المزيد من إبداعاته الفريدة في مجال النقد الموسيقي، لقد حان وقت الإبداع الحقيقي
كتابات فريدة من نوعها حقا ؛ الإبداع الحقيقي يتخذ هنا مسارا غير مسبوق في عوالم النقد الثقافي وخاصة النقد الموسيقي – تحيات قلبية
عمق في التحليل وتألق في العرض والمعالجة ؛ جمهور القراء والقارئات العرب بحاجة ماسة إلى مقالات تشحذ العقول بالجديد والحداثي من نوع مقالات نضال جمهور ؛ تحية تقدير خاصة
برافو عليك يا نضال على هذه الكتابات العميقة التي تستحضر العديد من الأفكار الهامة التي طرحتها أسماء فكرية كبيرة من خلال تحليل أغنية دبل زوكش (فكك) ؛ برافو عليك
كلمة مثل ظل النملة تحت هد ا التحليل الفني الثقافي الموسيقي ادا سمح لنا المنبر المتميز عن غيره وكدالك الكاتب الباحث المحترم الموسيقى الغنائية في كل الوانها المتميزة ستظل أداة تعبير مادام هد ا االوجود .