الحبكة البوليسية التي ابتدأت بها الرواية، ضمرت واستكانت في ما تلى من فصولها. تلك المطاردات التي أُشركت فيها بلدان أوروبية عدّة توقّفت هكذا فجأة، أو لم يبق منها لاحقا إلا العودة إلى التذكير بها، وذلك لضرورة أن تجمع الرواية، قبل ختامها، كل شتاتها.
وما كنا بدأنا بقراءته تحوّل إلى مجاري سرد أخرى. برناديت، المخاتلة والمدعية الغرام ببطل الرواية، لم تعد للظهور مثلما كانت تعد، كما اختفى أيضا مسؤولو المنظمة الذين كانت تعمل لمصلحتهم. من إيطاليا وبلدان أخرى معنية بمطاردة عالمة النبات التي اسمها هدى، تحوّلت الرواية إلى أن تحطّ في قرى لبنانية بينها حمانا وبمهرية، وهما اسمان حقيقيان لقريتين موجودتين فعلا، ذاك أن الروائي نزار عبد الستار أحب تسمية الأشياء بأسمائها. ليس فقط أن أمكنة القرى والمدن بشوارعها وفنادقها ومقاهيها ذكرت بالأسماء التي يعرفها اللبنانيون، بل الشخصيات أيضا، وهذه ذُكرت مصاحَبة بألقابها، مثل سعد الحريري رئيس الوزراء، وريّا الحسن وزيرة الداخلية.
تجول الرواية بين أمكنة وأسماء ووقائع يعرفها القراء اللبنانيون، مع العلم أن كاتبها وبطلها عراقيان. لكن هناك صلة ما تجمع البطل، أو تجمع عائلته، بالبلد الذي تجري فيه وقائع روايته. أما ذلك الميل إلى تسمية الأشياء بأسمائها فغايته أن يُضفي على الأحداث سمة الحقيقة، ما يوحي بواقعيتها، وإن في مجريات تبدو أقرب إلى السحري أو الرمزي أو ما فوق الحقيقي. رفضت ربى عالمة النبات ان تستجيب للدعوات الأوروبية، البوليسية الطابع، التي كانت تأتيها لمكافحة جرثومة Melva التي تصيب شجر الكرز. هي آثرت، وبشكل بوليسي أيضا، أن تقوم بذلك في حمانا، لا في أوروبا. ربما يرجع ذلك إلى حسّ وفاء للبنان. ومن أجل أن تجيء إلى لبنان، أو بالأحرى أن تعود إليه، كان عليها أن تسلك، في الليل، طرقا وعرة، بمساعدة حماة ومهرّبين، لتصل إلى قرية بمهرية وتقيم فيها مع حبيبها زياد أياما قبل توجّههما معا إلى حمانا. هناك، في إقامتهما التي كانت تجري تحت رعاية موظفين ورسميين، بدأ عملهما على مكافحة الجرثومة الفتاكة، في حقل الكرز الذي تبلغ مساحته خمسة أفدنة، منفردة؛ كما بدآ تعاشقهما الجامع بين السمو الروحي والتطرف الجنسي.
على قارئ رواية «مسيو داك» أن يمعن في التخيّل لإيجاد المعنى، أو المعاني الكثيرة، التي يمكن أن تتحصّل من اجتماع الواقعي بالخرافي، وعقد الصلة بين تلك الحرب وذاك العشق.
في الحقل كانا يعملان في الليل غالبا. وكما في التعيين التفصيلي للأمكنة والأشخاص المذكور أعلاه، ها هما يستعينان بكل ما هو ضروري من أدوات مساعدة، تُذكر هي أيضا بأسمائها. أما مطاردة هذه الحشرة فبدت فصولها في الرواية أقرب إلى وقائع حربية. أوحى بذلك اسم الحشرة أولا، Melva، الذي هو في الأصل اسم لمصارِعة كانت تواجه، وهي عارية الصدر، الأسودَ النمور في الحلبات الرومانية. كان ذلك يحتاج من العاشقَين العمل بعد إعداد الخطط، العسكرية الطابع، حيث التحايل ومحاولة الإخضاع عبر اغتيال الحشرة القائدة، كي تتضعضع الصفوف التي تتبعها. أما الوقت فمحسوب وقليل، إذ عليهما إنجاز عملهما قبل الموعد المضروب لمهرجان الكرز الذي تقيمه البلدة (وهو مهرجان معروف حقيقة للبنانيين).
في موازاة خطط المكافحة هذه، الحربية، لم تلبث أن أُدخلت عناصر إضافية في المواجهة. مربّى الكرز واحد من هذه، حيث ارتأيا أن يوضع في الأخاديد التي يحفرانها، فتغتذي منه الحشرات، ما يبعدها عن الشجرات. عنصر آخر، وهو سحري وخرافي هذه المرة، تمثّل في اللجوء إلى اللون الأرجواني الذي كانت ترتديه المصارعة الرومانية. هذا الأخير لم تكن لتصطبغ به قطعة الأرض، بل أن ينتقل إليها لونُه عبر الثياب الأرجوانية التي ارتداها الزارعان العاشقان. ثم، ولمزيد من الخرافة رأى هذان أن يسقيا الأرض بمياه نهر إبراهيم المقدّسة، مياه أدونيس كما في الأسطورة، فكانا يرسلان يوسف، المكلف بإحضار طلباتهما، أن يأتيهما بغالونات مملؤة من ذلك النهر.
على قارئ رواية «مسيو داك» أن يمعن في التخيّل لإيجاد المعنى، أو المعاني الكثيرة، التي يمكن أن تتحصّل من اجتماع الواقعي بالخرافي، وعقد الصلة بين تلك الحرب وذاك العشق. الإقرار بالوصول إلى شيء من اليقين سيكون مستعصيا لا بدّ، مثلما هو الحال حين انعقاد صلات متنافرة بين أشياء واقعية وأخرى غيبية؛ بين الاستعانة باللون الأرجواني والمياه المقدسة في مكافحة الحشرة المقاتلة، والاحتدام الجنسي المغرق في واقعيته المتطرّفة، لكن ما تمكّن منه نزار عبد الستار هو إلحاحه في دفع قارئه إلى أن يفكّر في مآل ما قرأه: أن يهتدي إلى ما ينبغي أن يوصل إليه العالَم المختلط بين ما هو معقول وما هو غير معقول. ذاك أنه (الكاتب) تمكن من إبقاء قارئه مشدودا إلى ما يقرأ، قابلا بذلك التراوح بين الهبوط إلى العادي والارتفاع، بل التحليق، نحو الأسطوري.
٭ روية نزار عبد الستار «مسيو داك» صدرت عن دار «نوفل» في 143 صفحة- سنة 2020.
٭ روائي لبناني