تسلط هذه الدراسة الضوء على إحدى معضلات الثقافة العربية الحديثة، المتمثلة في منزلة الترجمة. ويسعى الأكاديمي والمستعرب الفرنسي ريتشارد جاكمون إلى رصد أسباب انحسار وتدني الترجمة في العالم العربي. ويبدو جليا في هذا السياق حرص الباحث على الوصل بين الوضعية المزرية للترجمة والعشوائية التي تسم قطاع النشر، وتداول المعلومات في السياق العربي، علاوة على انحسار مسلسل التعريب وتقلص استعمال اللغة العربية في الجامعات العربية، لصالح هيمنة لغات الاستعمار. يعمل الكاتب أستاذا للغة والآداب العربية الحديثة في جامعة إيكس مارسي.
يثير تراكم الصراعات والأزمات وأشكال الحصار من كل نوع في العالم العربي، منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 خطابا تشاؤميا وكارثيا في الغالب في أوساط النخب العربية، التي تبدو في الوقت الراهن بعد إلقائها مسؤولية الشقاء العربي، حسب تعبير المأسوف عليه سمير قصيرعلى الآخر المحتل والمهيمن، أكثر ميلًا إلى النقد الذاتي. ويرسم تقرير سنة 2003 «بناء مجتمع المعرفة» الذي أشرف عليه فريق من الباحثين العرب صورة مثيرة للقلق عن حالة العالم العربي وتهم تحديدا إنتاج وانتقال المعلومات والمعارف. ويقوم بالمزج بين خطاب وطني؛ إذ يتقدم باعتباره منتجا من لدن العرب ومن أجلهم، ونقد صارم للسياسات التربوية والثقافية واللغوية والعلمية المتبعة من لدن الأنظمة العربية، ويستعمل بغزارة إحصائيات مقدمة بطريقة تصدم العقول وتحديدا من خلال مقارنة بينات إحصائية عربية بمثيلتها في البلدان الآسيوية النامية.
استشرف هذا التقرير الغاية المنشودة منه بطريقة تفوق ربما ما كان يرجوه من حرروه، وقد جرت استعادة عدد كبير من الأرقام والتحليلات الذي اشتمل عليها منذ تلك اللحظة، من لدن وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وأيضا في بعض الخطابات الرسمية العربية. ولعل أحد هذه التحاليل التي تروج الآن مثل حقائق بدهية تلك التي تقول: لعل إحدى القرائن الدالة على أزمة الثقافة العربية المعاصرة تتمثل في ضعف حركة الترجمة إلى اللغة العربية. وباحتكامه إلى المعطى الذي مفاده أن الترجمة تتيح إمكانيات امتلاك وتداول المعلومات والمعارف وفتح فضاءات التفاعل والتأثير المتبادلين، فإن التقرير يضيف ما يلي: تشكل الترجمة بالنسبة للمجتمعات العربية، تحديا رائعا وضرورة حيوية تستوجب جهودا منظمة في إطار استراتيجية عربية طموحة ومندمجة:
لم يستفد العرب من دروس الماضي، ويبقى حقل الترجمة متسما بالعشوائية والفوضى. وعلى الصعيد الكمي ورغم ارتفاع عدد الكتب المترجمة في العالم العربي من 175عنوانا في السنة في الفترة ما بين 1970 و1975 إلى 330 فإن هذا الرقم يوازي خمس الترجمات المنشورة في اليونان. والحال أن عدد الكتب التي ترجمت أبان عصر الخليفة المأمون يصل إلى عشرة آلاف وهو على وجه الدقة الرقم الذي تترجمه وتنشره إسبانيا كل سنة (شوقي جلال.. 1999)
بدا هذا التفاوت الصارخ جليا منذ النصف الأول من عقد الثمانينيات، فعلى امتداد خمس سنوات كان عدد الكتب المترجمة بالنسبة لكل مليون نسمة 4.4% في مجموع العالم العربي؛ أي بمعدل كتاب واحد في السنة ولمليون مواطن عربي، في الوقت الذي وصل فيه عدد الترجمات في هنغاريا إلى 519 وفي إسبانيا إلى 920.
كان من شأن هذه الأرقام أن تصدم العقول لكنها تبقى أبعد ما يكون عن الحقيقة. ويتحتم علينا قبل تقديم تصور تقريبي، أن نتمثل الطريقة التي بنيت بها هذه الإحصائيات. كان المصدر المعتمد هو «الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحديات وهو بحث قصير للباحث والمترجم شوقي جلال. وقد استند في سياقها من جهة إلى تجميع إحصائي أشرفت عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1985 في إطار «المخطط الوطني للترجمة الذي ظل حبرا على ورق.. استقيت عبارة «وصل عدد الكتب المترجمة منذ عصر الخليفة المأمون إلى الآن عشرة آلاف» من هذه الوثيقة. والمأمون هو الخليفة العباسي الذي اقترن اسمه بالعهد الذهبي للترجمة العربية، كانت حركية لا نظير لها في التاريخ وتشمل القرن الأول من العصر العباسي 750/850 وتشكل دعامة ازدهار العلوم العربية. مثلت الإحالة الى هذه الحقبة سلوكا نمطيا للخطاب الحداثي العربي منذ بدايات عصر النهضة. ونعثر على بعض تجلياته أيضا في هذا التقرير. يتعلق الأمر إذن بمعلومات ومعطيات قديمة نسبيا وتعتورها في الآن نفسه الكثير من الهنات والثغرات. كانت هذه المنظمة قد احتكمت في الحقيقة إلى معطيات استقتها من الدول العربية التي لم تستجب إلا بشكل جزئي وغير محايد لمطالبها.
نتساءل والحالة هذه عن العلة وراء هذا الجهل، بل التبخيس من عمل المترجمين العرب، خصوصا في العقود الأخيرة. ويبدو الجواب هنا معقدا. نستنتج في ما يهم غالبية حقول المعرفة أن الاعمال الأدبية والفكرية الغربية بشكل خاص نقلت إلى اللغة العربية.
تتعلق الأرقام الأخرى التي يستقيها التقرير من جلال شوقي باليونيسكو، التي حرصت منذ تأسيسها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على إنتاج بيبلوغرافيا بالترجمات المنتجة في كل أنحاء العالم. بيد أن هذه القاعدة المشكلة بدورها من معطيات وبيانات توفرها الدول الأعضاء تظل خاضعة لتأثير الظروف المختلفة والمتعددة التي ينجز فيها الجرد الببليوغرافي هنا وهناك. وأيضا للتعريفات المتضاربة لـ»كتاب». فمن بين 498 إشارة خاصة بالعراق نعثر على 329 ترجمة لمختلف اللغات لكتب صدام حسين.
تبقى مصر على الصعيد العربي الناشر الأول للكتب المترجمة والمزود الأكبر لهذه الببليوغرافيا؛ إذ تتوفر على 3507 عنوانا. وقد أعدت المكتبة الوطنية المصرية عام 2002 ببليوغرافيا هائلة الكتب المترجمة منذ بدايات المطبعة عام 1820 إلى عام 1995. وتشتمل على 13659عنوانا. وهو رقم يفوق بكثير العشرة آلاف ترجمة المزعومة التي تمتد من عصر الخليفة المأمون إلى اليوم.
يبقى مركز النشر العربي الثاني الكبير وهو لبنان غائبا بدوره في هذه الببليوغرافيا؛ إذ لا يضم إلا 64 عنوانا مترجما منذ 1978. والحال أن هذا البلد يضاهي ما تترجمه مصر منذ 1960.
ما هو واقع الترجمة العربية راهنا؟ منذ انتهاء هيمنة المركزين المصري واللبناني على الكتاب العربي وانبعاث نشر وطني في غالبية البلدان العربية منذ بداية السبعينيات أصبح قطاع النشر شديد التنوع والاختلاف. ويستلزم ذلك صعوبة الخلوص إلى تصور دقيق للحالة الراهنة لإنتاجية قطاع النشر العربي، وحصة الكتب المترجمة. تبقى مصر أول منتج في هذا السياق برقم يعادل 20 ألف عنوان جرى تسجيل إيداعها القانوني عام 2005. بيد أن نصيب الكتب المترجمة ضعيف نسبيا، وبالاستناد إلى ثبت الترجمة الذي يحوي المعطيات التي توفرها المكتبة الوطنية المصرية، فإن عدد الترجمات لا يتجاوز 400 في السنة. ويمثل ذلك خمسة في المئة مما ينشر. وفي لبنان الذي لا يتوفر على إيداع قانوني فإن نقابة الناشرين تقدر نشر 7500عنوان في سنة 2004 ضمنها 2700 عنوان جديد. وفي غياب إحصاء للترجمات يمكننا تقدير عدد الترجمات المنشورة سنويا في لبنان في 400 أو 600 عنوان أي بمعدل 5 أو 10% من المنشورات. ويسجل الإيداع القانوني في سوريا كما هو الشأن في مصر ارتفاعا ملحوظا في الإنتاج. ويمكننا استنادا إلى فهارس الناشرين تقدير عدد الترجمات بـ200 و300 عنوان من أصل 2000 كتاب منشور. وتعتبر سوريا يقينا البلد العربي الوحيد الذي تعتبر فيه نسبة الترجمة الأكثر ارتفاعا. ويعزى السبب في ذلك إلى أن مسلسل التعريب فيه كان أكثر تقدما وتنظيما. يتميز المغرب من جهته بسوق نشر مزدوج اللغة وارتباطه في آن واحد بقطاع النشر الفرنسي والشرق أوسطي. ونخلص لجمعنا بين هذه الإحصاءات الوطنية إلى تقدير يراوح بين 1500 و2000 ترجمة وهو ما يمثل 5% من العناوين المنشورة.
لعل ما يثير انتباه الملاحظ يتمثل في انخفاض حضور الترجمة في العالم العربي المعاصر واستمرار خطابات النخب الحداثية حول المسألة، الذي يتمثل في أننا نترجم قليلا وبشكل متأخر ولا نختار الكتب الجيدة. وحين يحدث ذلك فإن الترجمة تكون سيئة. ينبغي التنويه بان هذا الخطاب صادر من أولئك الذين يشتغلون من داخل الحقل الثقافي أو العلمي؛ وهو ما يسبغ عليه طابعا مهنيا. كان هذا الخطاب ناجعا بشكل ملحوظ في حدود إقناعه صناع القرار باتخاذ سياسات دعم للترجمة في سياق أيديولوجيا للتنمية. وإذا كانت المشاريع القومية العربية قد منيت بالفشل ابتداء بمشروع الجامعة العربية عام 1945 بإيعاز من طه حسين وانتهاء بالمخطط الوطني لعام 1985 الذي أشرفت عليه منظمة الإليسكو. أفلح العديد من المشاريع في ترك بصمته: مشروع الألف كتاب إبان الحقبة الناصرية، ومشروع الترجمة لوزارة الثقافة السورية، والمشروع الوطني للمجلس الأعلى للثقافة في مصر. تنضاف إلى ذلك مشاريع اقل أهمية من حيث الكم، ولكنها مثيرة من حيث القيمة مثل العشرين ترجمة التي أشرفت عليها اللجنة اللبنانية لترجمة الأعمال الرائدة في عقدي الستينيات والسبعينيات. لعل الأكثر إثارة للدهشة أن الحرب الباردة حولت العالم العربي إلى مجال لسياسات التأثير السياسي للقوى الأجنبية. وهو ما تمثل في برامج مساعدة للترجمة والنشر.
نتساءل والحالة هذه عن العلة وراء هذا الجهل، بل التبخيس من عمل المترجمين العرب، خصوصا في العقود الأخيرة. ويبدو الجواب هنا معقدا. نستنتج في ما يهم غالبية حقول المعرفة أن الاعمال الأدبية والفكرية الغربية بشكل خاص نقلت إلى اللغة العربية. والحال أن كاتبا أو مثقفا عربيا أحادي اللغة سيكون حين إطلاعه على هذا المتن المترجم عرضة للتهميش مقارنة بزميله الناطق بالإنكليزية، أو الفرنسية. تكمن المشكلة في استحالة العثور على هذا المتن على الصعيدين الرمزي والإجرائي. وهو مشتت بحيث يتعذر الحديث عن وجود مادي أو رمزي له. يسهم ضعف وهشاشة المكتبات الوطنية بما فيها المتخصصة في الأرشفة والوثائق وعوائق تسويق وتوزيع الكتاب في تشتيت هذا المتن. عرفت اللغة العربية طيلة القرن العشرين نوعا من التحديث القسري جعل من بعض الترجمات التي يعود تاريخها إلى بضعة عقود غير ذات جدوى، أو مثيلتها الحديثة عصية على المقروئية، حتى من لدن القارئ المتخصص. أسهمت نهاية هيمنة المركزين اللبناني والمصري على قطاع النشر وتشتت الحقل السياسي والثقافي العربي بوصفه محصلة للتشتت السياسي في بلورة فوضى مصطلحية.
وفي المحصلة، فإن كل هذه الاعتبارات لا وزن لها مقارنة بالعائق الأساس لنهوض الترجمة العربية والمتمثل في عدم اكتمال مسلسل التعريب. فكلما ترسخ استعمال اللغة العربية في كل حقول التواصل، خصوصا في التعليم العالي تحسنت أحوال الترجمة والعكس صحيح. والحال أن التطور الراهن في غالبية البلدان العربية يميل باطراد صوب تراجع استعمال اللغة العربية في الجامعات ومجالات التواصل. وهذا أحد التحديات الكبرى التي يتحتم على المجتمعات العربية مواجهتها في السياق الراهن.
كاتب ومترجم مغربي
شكرا أستاذ عبدالمنعم، جهد يستحق التقدير فعلا، وإذا لم يكن لديك مانع أتمنى أن تشاركنا في الإجابة عن أسئلة تحقيق ثقافي نقوم به حول ( الترجمة والهوية العربية، وقد قمت بتوجيه الأسئلة إلى مجموعة من المشتغلين بحقل الترجمة بينهم : بسام بركة ( لبنان)، وعلي نجيب إبراهيم ( سورية/ باريس)، وإياس جسن ( سورية، والسعيد أبوطاجين ( الجزائر)، وكنت أطمح إلى أن بشترك في التحقيق قامة مغربية.