ريجيس دوبريه وإدغار موران: ما نزال غير قادرين على رؤية الموت وجها لوجه

حوار: نيكولا ترونغ ـ ترجمة وتقديم: عبدالدائم السلامي
حجم الخط
2

أصدر الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه (78 عاما) كتابا بعنوان «البقعة العمياء» (منشورات سيرف، أغسطس/آب 2018)، انصب فيه جهده التأملي على تبين علاقة الحضارة الغربية الراهنة بظاهرة الموت، من جهة أنها حضارةٌ ماضيةٌ في تمديد حياة الناس، بفضل تطور تكنولوجياتها الحيوية، بدون أن تنتبه إلى أن في هذا التمديد مفارقة أليمة؛ وهي أن المرء الغربي كان يموت صغيرا ولكنه يموت سعيدا، لأن إيمانه الديني طمأنه بأنه سيعيش حياة أخرى، بينما هو يعيش اليوم عمرا طويلا ليموت بلا أملٍ في خلودٍ ما، إنه يذهب إلى «البقعة العمياء» التي لا نفكر فيها، وهذا ما يجعل حياته، مهما طالت، مليئة بالخوف من الوقوع في العدم. ولتجاوز هذه المفارقة يقترح دوبريه ضرورة أن نفهم الموت، وأن نروضه ونعيده إلى سياقه الروحي، بل نعترف به من خلال تضمينه في قصة كبيرة (كما هو شأنه في الديانات)، لأن الاعتراف بالموت يخلق مجتمع الذاكرة، ويطمئن الناس، ويطيل حضور الأموات بيننا عبر ما نحكيه عنهم من قصص، والمشكلة في رأي دوبريه هي أنه ليس للغرب اليوم قصصٌ كبيرة تجيب عن سؤال الموت. وبمناسبة صدور هذا الكتاب، نشرت صحيفة «لوموند» حوارا أجراه محررها نيكولا ترونغ، مع كل من ريجيس دوبريه وإدغار موران، الذي اهتم بالبحث في أنثروبولوجيا الموت، ونشر في الغرض كتاب «الإنسان والموت» (منشورات سوي 1951). وهو حوار تكفل فيه هذان المفكران بالبحث في أسباب تعمد الثقافة الغربية الراهنة تجنب الحديث عن الموت، وبمحاولة الإجابة عن السؤال الراهني: كيف أصبح الموت لدى الجماعات الإرهابية سبيل انتحارييها إلى الحياة؟

إن اللادينيين، محتاجون إلى إعادة تقديس مسألة وداعهم الأخير، عبر إقامة مراسم لموتهم تشكل نوعا من التطهر النفسي، الذي يجعلهم يغوصون في منبع الحياة.

■ هل صار الموت «بقعة عمياء» بالنسبة إلى الغرب؟
□ إدغار موران: حاول القرن العشرون أن يتجاهل الموت. في سالف الزمن كان الناس، في أمريكا ثم في أوروبا، يدخلون الميْت – قبل أنْ يوضع في التابوت – إلى غرفة رائعة ويزينونه، ثم يلبسونه أفضل الثياب استعدادا لحياته الجديدة. ولم يكن ذلك إلا محاولة منهم لمحو فكرة أن الموت يعني التحلل والانمحاء. غير أن تجاهل الموت بدأ الآن يتقلص بيننا باطرادٍ، رغم استمرار عدم قدرتنا على النظر إليه وجها لوجهٍ، بل بدأت تتنامى عندنا رغبة البحث فيه. وإذا كانت الديانات قد أباحت للمؤمنين أن يقيموا مراسم جنائزية، ومنحتهم وعودا بحياة لهم أخرى، فنحن البقية، الذين لا إله منقذا لنا، سنواجه عند موتنا حرمانا من تلك المراسم ومن طقوس تشاركها. لقد اقترحت في كتابي «الطريق: نحو مستقبل البشرية» (منشورات فايار 2011) مراسم جنائزية علْمانية على شاكلة مراسم جنازة كورنيليوس كاستورياديس (1922-1997): حيث وافقت الكنيسة البروتستانتية على أن تعزف فيها للفقيد موسيقاه المفضلة، وأن تنشد داخلها القصائد التي كان يحبها. وليس العشاء الجنائزي، متى ما حقق وحدة المجموعة الدينية، إلا طقسا أنثروبولوجيا «يستهلك» فيه الميت من قبل الأحياء عبر فعل استبطانهم له. وهو أمرٌ يجعل الفقيد يحضر فينا في الوقت نفسه الذي يغادرنا فيه، من خلال حديثنا عنه وسرد قصصه. إن اللادينيين، أمثالنا، محتاجون إلى إعادة تقديس مسألة وداعهم الأخير، عبر إقامة مراسم لموتهم تشكل نوعا من التطهر النفسي، الذي يجعلهم يغوصون في منبع الحياة، في الوقت نفسه الذي يغرقون فيه في هاوية الموت، لذلك آمل في أن تتم إعادة النظر في كل ما يتصل بمراسم موت هؤلاء اللادينيين.
■ ريجيس دوبريه: ليسْمع منك الإله ومتعهدو دفن الأموات يا عزيزي إدغار. وبالنسبة إلى مسألة مراسم الموت، لديّ بالأحرى إحساسٌ بتقوقع كل فردٍ على ذاته في تدبيره لأمر حزنه الخاص. إن ضريبة الإفراط في الفردانية هي غياب الطقوس والشعور بالعزلة. ما يوجد الآن هو تخلصٌ سريعٌ من الجثمان، كي لا يتعفن، فلا توجد علامات حدادٍ، ولا مآتم، ولا مواكب دفنٍ. ثم إنه بالتحريق السريع لجثة المتوفى تمحى آثاره من الأرض، بل من الذاكرة. وإنه نتيجة لغلبة المذهب البروتستانتي ونهاية الإيمان بالآخرة، لم نعد اليوم نحتاج إلى الإبقاء على عظمة ساق الميْت أو عضده! نحن نحرق كل شيء منه بلا ندمٍ! ولن يكون غريبا أن يقال لنا يوما: «اعتنوا بأمر أمواتكم بأنفسكم، ضعوهم في إناءٍ واحرقوهم فوق مدافئكم، ولا تزعجونا بهم بعد الآن!». أما بالنسبة إلى الفن الجنائزي، فالأفضل ألا نتحدث فيه، وأنا هنا لا أتأسف، ولكني أعاين فحسب. لن أقول إن الأمر كان جيدا في الماضي، وإنما أقول فقط بوجود «قلقٍ في الحضارة» على حد عبارة فرويد. إن إضفاء الطابع الطبي على الموت، ذاك الذي يجعلنا نموت في المشافي وليس فوق أسرة بيوتنا، واستبعاد المقابر من المجال العمراني، قد يبدوان مفيدين لحفظ صحة الأحياء، ولكنهما أمران يجعلان الموت حدثا محيلا إلى الفراغ.

إدغار موران: الحق أننا لا نطْرد الموتى إلى الضواحي، إن التوسع الديمغرافي للمدينة هو ما جعل مقبرتي الأب لاشيز ومونمارتر لا تكفيان لقبول مزيدٍ من أمواتنا.

□ إدغار موران: الحق أننا لا نطْرد الموتى إلى الضواحي، إن التوسع الديمغرافي للمدينة هو ما جعل مقبرتي الأب لاشيز ومونمارتر لا تكفيان لقبول مزيدٍ من أمواتنا. غير أن هذا لا يمنع من القول إن حياتنا صارت خلوا من الطقوس والأساطير.
■ هل لانتشار ظاهرة حرق الجثامين وإبعاد المقابر تأثيرٌ في علاقتنا بالموت؟
□ ريجيس دوبريه: عندما لا يكون هناك مكانٌ لا تكون هناك صلةٌ. فوجود المكان أمرٌ ضروري لتثْبيت الذكرى. والمزعج في عمليات التحريق الذاتي هو محو المكان الثابت (القبر)، واختفاء همزة الوصل بيننا وبين أمواتنا، فالقبر هو المكان الذي يستحسن أن نلتقي حوله لنتبادل الذكريات. والمقبرة هي مكان موعد الأصدقاء، ومنها يمكن أن نستعرض كل الأحداث، وفيها نحيي علاقتنا، بمن لم نعد نستطيع التواصل معهم. إنها هي مكان اجتماعنا الأخير الذي يمكن أن نكون فيه مبتهجين جدا، إنني أحب ذاك المكان، لأنه يشعرني بالراحة.
□ إدغار موران: إحدى أكثر الأشياء التي أثرت فيّ كثيرا خلال السنوات الأخيرة هو قبر أنطونيو ماتشادو، الشاعر الإسباني الذي لجأ إلى فرنسا بعد الحرب الإسبانية، وتوفي سنة 1939 في منطقة كوليور الواقعة بالبيرينيه الشرقية. فعندما وقفت عند قبره، بعد حوالي ثمانين سنة على وفاته، لاحظت أنه لم يكن مغطى بالأزهار فحسب، وإنما أيضا بقصائده وقصائد غيره من الشعراء، وحواليه كان هناك جمع من المعجبين بأشعاره، ومن تلامذة أحد المعاهد الثانوية القادمين من الأندلس، حيث عرضت عليهم مدرستهم إحدى قصائد الشاعر، فقرأ كل واحد منهم بيتيْن منها، وقد كنت قرأت معهم أيضا بيتين من شعره. إن ذاك التشارك الذي تم بفضل هذا الشاعر الميت حدثٌ لا يمكن لي أن أنساه.
■ ريجيس دوبريه: نأمل أن يحدث الشيء نفسه مع مواطنه جورج سامبران (1923-2011) الذي دفن على الحدود الفرنسية الإسبانية. وإن ما تقدم يفيد بأن السلطة عندما تريد إبادة أحد معارضيها، تخفي جسده أو تلقي به في البحر. إن الدفن في الأرض، في التربة، هو ما يمنح بقاء الميت طويلا في ذاكرة الأحياء. فقبْرٌ ما، في مكان ما، بإمكانه مقاومة لحظة النسيان الراهنة.
□ الملاحظ اليوم هو ازدهار تيارات «الما بعد إنسانية» (المتكئة على تطور التكنولوجيا الحيوية). فهل نحن في طور إرجاء الموت عبر تمديد حياة الجسد البشري؟
■ ريجيس دوبريه: لا نستطيع أن ندفع الموت عنا. وما يظهر من ذلك إنما هو يدخل في باب تعويض الإنسان خسائره التي حاقت به بسبب فقده الإيمان بخلود الروح، حيث يتم نقل فكرة تمديد الحياة إلى الجسد، لإعطائه قليلا من الخصال الجيدة. وهذا أمرٌ مضحكٌ جدا. لقد اختفت الصوفية القديمة، ونحن الآن نصنع أخرى جديدة: هي صوفية عالم التكنولوجيا. وهذا يشبه قليلا ما سماه إدغار، الخلود.
□ إدغار موران: كنت أعتقد، في بداياتي البحثية، أن التطور العلمي يقودنا إلى استبعاد الموت تدريجيا، وهذا لا يعني أنه يقودنا نحو الخلود، لأننا ما نزال نموت بحوادث مختلفة، وإنما نحو تمديدٍ للحياة غير محدودٍ. وفي وقت لاحق، وخلال إقامتي بمعهد «سالك» للبيولوجيا في كاليفورنيا، أخبرني الكيميائي ليسلي أورغل بأنه حين تتراكم الأخطاء في معلومات دورة البروتين (DNA-RNA) فإن ذاك يؤدي حتما إلى الموت. كما أدركت، من ناحية أخرى، أن العديد من الكائنات تبرمج موتها ذاتيا، وبسبب ذلك تخليت عن فكرة استبعاد الموت. لكن بعد لقائي مع الطبيب والباحث جون كلود آميسين الذي شرح لي أنه مع ظهور الخلايا الجذعية، والأطراف الصناعية، وعلوم الكمبيوتر، والطب التنبؤي، والتدخلات الجراحية في الرحم، أصبح من الممكن الآن أن نطيل الحياة البشرية بشكل ملموس، ولذلك عدت إلى قناعتي الأولى، حتمية الموت.
■ ريجيس دوبريه: لا يمكن رفض حصة إضافية من أشعة الشمس، ولْيحيا البحث العلمي، لكنني ألتزم بالقاعدة الأساسية القائلة بأن مآل كل حي هو أن يموت. لا أمتلك التفاؤل المطلق الذي عند إدغار، ولا إيمانه بالطوباويات، وإنني أشعر حيال ذلك بالأسف.
□ إدغار موران: لكن هذا لم يعد طوباويا اليوم، إذ أن جملة الاكتشافات على الخلايا الجذعية التي تسمح بتجديد الأعضاء، وجملة التدخلات الوراثية التي أضحت ممكنة بفضل مشارط طبيةٍ بالغة المهارة، ناهيك عن كل الأجهزة التعويضية للقلب ولأعضاء أخرى من الجسد، أضحى بإمكانها جميعا، عاجلا أو آجلا، أن تطيل حياة الطبقات المحظوظة من الناس والنخبة التكنو-اقتصادية.
■ ريجيس دوبريه: إدامة الحياة لا تعني القضاء على الموت وحتمية النهايات.
□ إدغار موران: طبعا، ولكن من المهم أن نشير إلى أن العلْم قد أعاد الحياة لأسطورة الخلود، مع أنني أقاوم هذه الأسطورة، وقد فعلت ذلك سابقا، وسأواصل مقاومتها.

المشكلة في عالم الديانات العلمانية هي أنه لم تعد لنا فيها أي نقطة هروب، لا إلى المثالية، ولا إلى الصور البهيجة التي تروج عنها.

■ ماذا يغير نفينا العالم الآخر أو محوه من مسألة خوفنا من الموت؟
□ ريجيس دوبريه: إنه يغير أولا نظرتنا إلى الحياة، أي إلى «مجموع الوظائف التي تقاوم الموت» على حد عبارة الفيزيولوجي ماري فرانسوا كزافييه بيشا، وإحدى تلك الوظائف، وليس أقلها تأثيرا، هي التصور الديني، حيث تتم فيه مقاومة الموت عبر نكران الواقع، وبالأساس نكران الموت نفسه، ثم بناء مشهد خيالي رائع، هو مشهد الخلود في النعيم. غير أن ثقافتنا الخيالية، خاصة منها المسيحية، قد تهاوت الآن. كان الشاعر بيار ريفاردي يقول: «إن نرى بوضوح يعني أن نرى الأشياء القاتمة». ولتجنب ذاك التهاوي، فإننا نغلق أعيننا عند الصلاة ونتملى الإشراقات التي يشيعها فينا تفكيرنا في الآخرة، أو في يوم الحساب، أو في العدالة على الأرض، أو في مجتمع بلا طبقات، وذلك بسبب أنه، بعد أفول فكرة العالم الآخر، قد حل ما هو أبعد منه، وهو عالم المستقبل المشرق للديانات العلمانية، تلك التي لها حياة قصيرة، بل هي أقصر من حياة الديانات السماوية. بقي أن المشكلة في عالم الديانات العلمانية هي أنه لم تعد لنا فيها أي نقطة هروب، لا إلى المثالية، ولا إلى الصور البهيجة التي تروج عنها. ناهيك عن أنه لا أحد منا يعرف ما سيكون عليه المستقبل، ولكننا نعرف إلى حد الآن، أو نخال أننا نعرف، ما ينبغي أن يكون عليه. أنْ نمنع المستقبل من الانهيار، هذه هي كلمة السر. غير أن المستقبل قصير، وتنْقصه الدينامية. كما أن الديانات السماوية تحولت إلى إتيقا بسيطة، على غرار المسيحية في نسختها البروتستانتية، وصارت مفصولة عن كل ما هو من علم الآخرة، وعن كل إيمانٍ بها. ومن ثم، لم يبق لنا من أمرٍ سوى أن نوكل إلى الإيمان الفردي الحر مهمة مواجهة العدم. وفي ما يتصل بغريزة البقاء، أقول إن الصينيين قد وجدوا الحل في عبادة السلف، ولاذ البوذيون بالنيرفانا لتخليصهم من الألم، واطمأنت الهندوسية إلى فكرة تناسخ الأرواح، بينما لا نمتلك نحن شيئا يحمي بقاءنا. والجلي في هذا الأمر هو أن الـ»نحن» صارت في مأزق، ولم يبق إلا «الأنا». كان مارك أوريل، وهو رواقي ملتزم، يقول لنفسه إن «الموت هو الطبيعة، وعلى المرء أن يكون غبيا حقا لكي يتمرد عليها». وكان جوليان غراك يفكر أيضا بالطريقة نفسها في آخر حياته: «تقبل الموت والتمتع بالسكينة». إن هذه هي قوة الراشدين، أما نحن فقد بقينا أطفالا في مواجهة الموت.
■ الإسلاميون الراديكاليون لا يؤمنون بهذه النهاية المحتملة للمستقبل. ناهيك عن أن تكاثر الهجمات الانتحارية التي ترتكب باسم «داعش»، ليست مجرد أعمال عدمية، بل هي إيمانٌ منهم بالآخرة.

دعونا لا ننس، عندما نتحدث عن الحرب، على المستوى الدولي، أن المقاتل، ذاك الذي يرى أن موته في الحرب مكافأةٌ له، وبدايةٌ جيدة للخلود، لديه جرأةٌ وقدرةٌ قتاليةٌ عاليتان.

□ إدغار موران: إن ما يفصلنا عن هؤلاء الانتحاريين هو أننا لم نعد نؤمن بالجنة، في حين أنهم يؤمنون بها، كما آمن بها المسيحيون منذ بضعة قرون. مئات السنين قد مرت قبل أن يتم نقْد الإنجيل، بداية من عصر النهضة، حيث تبين تاريخيا أنه وضع بعد يسوع، وأنه توجد لدينا أناجيل أخرى منتحلةٌ، وقد تطلب ذلك كثيرا من الجهد البحثي لنصل إلى هذه الحيرة ، حيرتنا، ولكي نفهم بأن هناك ما لا يفهم. ومع ذلك، عليّ القول إن معظم المسلمين المعاصرين لا يعتقدون بأن المرء يدخل الجنة بقتل الكفار أو المرتدين. وإذا أخذنا في الحسبان الظروف التاريخية لهذا التعصب القاتل، فإننا سنفهم أن الجهاديين سعداء بموتهم كما كان الشهداء المسيحيون قبل بضعة قرون. وفي هذا الشأن، دعونا لا ننس التعصب النازي، والستاليني، والماوي، وقد تسبب كل واحد منها في مقتل ملايين الأبرياء.
■ ريجيس دوبريه: إدغار موران محق في ما ذهب إليه. عندما نتحدث عن الإرهاب على أنه يستمد شرعيته من الإلهي، فإننا ننسى الكثير من الأخرويات التي تتخفى وراءه، وكانت هي نفسها أخروياتنا منذ أكثر من ألف عام. ليس التفجير الانتحاري إلا تذكرة سريعة إلى الجنة، إلى ذاك المكان المنعش الذي يمكن أن يشرب فيه النبيذ ويمارس فيه الحب حتى الثمل. هؤلاء الجهاديون يؤمنون بالجنة، وهو أمر لا يصدق، لكنه لم يكن دائما كذلك بالنسبة إلينا. كلمة «التعصب» كلمة سهلة بعض الشيء (لا تفي بوصف هؤلاء). فهم لا يفضلون الحياة على الموت، لأن الموت بالنسبة إليهم سبيلٌ إلى الحياة الأبدية، خاصة إذا وصلوا إلى السماء ومعهم صيدٌ وفيرٌ (من الضحايا). إنهم لا يرون في الانتحار صفقة خاسرة. هي صفقةٌ خاسرةٌ بالنسبة إلينا نحن ضحايا حماستهم. دعونا لا ننس، عندما نتحدث عن الحرب، على المستوى الدولي، أن المقاتل، ذاك الذي يرى أن موته في الحرب مكافأةٌ له، وبدايةٌ جيدة للخلود، لديه جرأةٌ وقدرةٌ قتاليةٌ عاليتان. لدى الغرب طائراتٌ آليةٌ، ومروحياتٌ، وطائراتٌ، وصواريخ، للتعويض عن تباين الدوافع عند كلا الطرفين. لكن، في النهاية، وكما حدث في أفغانستان والعراق، فإن الخسارة لا تكون إلا من نصيب الشرطي الآلي (Robocop). إنه إذْ يهيمن على الأزرقيْن: البحر والسماء، يعاني المشقات، وينتهي به الأمر إلى التراجع صوب دياره عندما تدور المعركة على الأرض، أي في المناطق الرمادية، وتكون الحرب بين رجلٍ ورجلٍ.

ريجيس دوبريه: بالنسبة إلى الموت، فأنا لا أفكر إلا فيه، لذلك أنا استحث الخطى إليه.

□ هل تفكران في موتكما؟ وكيف تتمنيان أنْ تدفنا؟ وفي أي مكانٍ؟
■ إدغار موران: رغبتي في الحياة، وإحساسي بالمشاركة في مغامرة تتجاوزني، ومشاعري الشعرية، والحب الحي الذي هو دوما فيّ، وإيماني الذي هو ربما في غير محله بـ«مهمتي»، كلها أمور تكْبت، في معظم الأوقات، فكرة الموت وتقصيها. أؤمن، على عكس ريجيس دوبريه، بوجود عدد لا يحصى من الـ»نحن» الصغيرة والكبيرة التي يمكننا إدراج لعبة «الأنا» فيها. وهناك أيضا، وهو ما أحس» به بعمق، الـ»نحن» العظيمة للإنسانية التي ينبغي أن ننضوي تحتها، وأن نعي كونها مصيرا ومغامرة لكل الناس. ولكن من حين إلى آخر تغزوني فكرة «موتي»، وتملؤني بالفراغ والعدمية، فأشعر، مذعورا، بأن ذاتي ستغرق في العدم، وستدمر العالم في داخلي. أود أن أموت بين ذراعي زوجتي ومحاطا ببناتي. لا أفكر في جنازتي، فأنا حاليا من مشردي ما بعد الموت SDF»»، بلا أرض ولا أبدية. عندما أفكر في الموت، أود أن تعْزف موسيقاي المفضلة، كما أفضل الدفن على عملية حرق جثتي، ربما بسبب التطير، فأنا أكره كلا من البرودة الجليدية لغرفة التحريق، والنار النهمة للحرق.
□ ريجيس دوبريه: بالنسبة إلى الموت، فأنا لا أفكر إلا فيه، لذلك أنا استحث الخطى إليه. وبالنسبة إلى المكان، فقد رسبت في امتحان القبول في مقبرة مونبارناس بسبب عدم كفاءتي، فمتعهدو الدفن فيها لا يقبلون إلا توابيت المشاهير. وإذن: فسيكون دفني في الريف. ويتم ذلك بعد حفلة كبيرة يشارك فيها كثيرٌ من الأصدقاء، وجميع أفراد أسرتي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مصطفی رابەر:

    الحیوان اکثر حظا منا في محنة الموت حیث لایشعر بھا کما اعتقد

  2. يقول زهير بدري:

    قبح الله الالحاد وعمى القلوب

إشترك في قائمتنا البريدية