لا يتوقف المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه عن تفكيك عالمنا المعاصر، والدعوة إلى مواجهة أفكار الاستهلاك والصورة وأيديولوجيتها. فبعد سنوات طويلة قضاها في العمل السياسي، كان قد كرس جهوده البحثية في دراسة العقل السياسي وعلم الوسائط (الميديولوجيا) والثقافة الرقمية ودورها في تفكيك النظام الاجتماعي القائم.
وفي كتابه «السلطة الجديدة» الذي ترجم قبل فترة قصيرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود/ترجمة مصطفى القلعي (صدر بالفرنسية عام 2017) سيعود دوبريه ليدعونا إلى خوض معركة جديدة ضد ما يدعوه بـ» الزمن البروتستانتي الجديد». وهو زمن نراه اليوم يظهر من خلال صور عديدة، أهمها ما يسميه البعض بـ»ثقافة الشبابية» التي أخذت تنتشر هذه الأيام. فوفقا لهذه الثقافة ليس على الكبار وأفكارهم إلا أن يترجّلوا عن ظهور عجلاتهم القديمة، ليتيحوا للجيل الجديد، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي وعالم الصورة، الانتصار على زمن المكتوب ورجالاته. وهذا أمر يراه دوبريه خطيرا، ويعكس ثقافة استهلاكية باتت تنتشر ليس في فرنسا حسب، بل في العالم أجمع. ففي هذا الزمن، لا مكان للذاكرة أو الماضي، وإنما الحاضر هو الأساس والمنطلق فقط، كما أنه في هذا الزمن لا وجود للمؤسسات التقليدية والعادات والأفكار، بل يجري تدمير كل هذه المؤسسات بحجة أنها باتت عتيقة. كما يجري في هذا الزمن، الذي يبدو أنه مرادف لسياسة النيوليبرالية، تكييف فكر الناس، حتى يستنبطوا أساليب مجتمع السوق وقيمه، بوصفها الأساليب المنطقية للأمور وصنع الأشياء.
ومما يراه دوبريه أيضا، أنّ ظهور فكرة الشبابية ترافقت في الغالب مع فكرة الإشهار نفسها. فمع توسّع وسائط الميديا، ونجاح الشباب في تفعيلها، كانت هناك ثقافة تقول بضرورة الإشهار والشفافية. ويمكن رصد هذا من خلال الولع بعالم السيلفي، وهوس نشر الصور في كل مكان، بالإضافة إلى محاولة السياسيين هذه الأيام الظهور على وسائل التواصل بدعوى الشفافية، الأمر الذي يراه دوبريه بمثابة انتحار فكري. لا لأنه يعارض أن تكون هناك رقابة على المؤسسات السياسية، أو يتاح للشباب التعبير بحرية عن حياتهم وأفكارهم، بل لأنه يرى أنّ ثقافة الإشهار هذه ليست سوى تعبير عن تأثر برؤية دينية بروتستانتية أخذت تغزو العالم بأشكال مختلفة.
وفي سياق تفسيره لهذه الحالة، وكيف أخذت تتشكل، يرى دوبريه أنّ فكرة مارتن لوثر وكالفن كانت تقوم على دعوتهم المذنب إلى تطهير روحي شبه يومي. وفي هذه الرؤية سيكون لقيم الإخلاص والصدق حضور أكثر من القيم غير الشخصية والعقائدية، فالخلاص لا يكون في الانضمام إلى عقيدة أو مؤسسة، وإنما في «عملية مكاشفة» بصوت واضح. وانطلاقا من هذه الرؤية، سوف تتشكّل ثقافة بروتستانتية ترى أن البروتستانتي الجيد ليس لديه ما يخفيه، وإنما «الأشخاص الذين لديهم أشياء تشينهم يقلقون على بياناتهم الشخصية». وهنا لا ينفي دوبريه أنّ هذا التدريب المخزي على الإشهار، حقق في المقابل جمالا على صعيد الأدب وفحص الضمير والسيرة الذاتية، لكنه يعتقد أنها أنتجت في المقابل ثقافة أو هالة من الثقافة الجديدة المصنعة في الولايات المتحدة، وهي تكبر سنة تلو سنة في عاداتنا.
ومع البروتستانية الجديدة يكفي أن يكون معك الكتاب المقدس، وهو ما يتيح الترحال، فالإنجيلي يمكن أن يقدم الشكر لله في أي مكان. وهذا الدين المتسم بالمرونة والسلاسة والتنقل في المكان والطابع غير الرسمي، يغدو الرفيق الطبيعي للمنفيين وغير المستقرين والمهاجرين.
وفي سياق محاولة تفكيكه لهذه الثقافة، يصفها في مكان آخر من الكتاب بـ»لاهوتية لايت» أو الإنجيلية. فطالما أنّ المرء يجب أن لا ينتسب لمؤسسة ما، عليه أن يتنبى بالمقابل فكرة «افعلها بنفسك» إذ يمكن للفرد أن يتعلم دون معلمين، وأن يستخبر دون صحافيين، وأن يستمع إلى الموسيقى دون الذهاب إلى الحفل الموسيقي، ولذلك نرى إقبالا من الشباب على هذا المنهج. كما نرى أنه بسبب ارتباط البروتستانتية المباشر بالروح القدس، وارتكازها على عفوية العاطفة وتحررها من كل تنظيم وتقنين كنسيين، تمكن البروتستانت الجدد من إلغاء الهياكل الهرمية والأحكام الفوقية، من خلال تحصيل شبكات المعلومات الاجتماعية في حقائبهم، والتكلم بلغة الشباب، ما جعلهم يعملون من الأسفل إلى الأعلى بينما نرى أنّ الكاثوليكية ما تزال تعمل من الأعلى إلى الأسفل.
ومع البروتستانية الجديدة يكفي أن يكون معك الكتاب المقدس، وهو ما يتيح الترحال، فالإنجيلي يمكن أن يقدم الشكر لله في أي مكان. وهذا الدين المتسم بالمرونة والسلاسة والتنقل في المكان والطابع غير الرسمي، يغدو الرفيق الطبيعي للمنفيين وغير المستقرين والمهاجرين. بينما يبدو الكاثوليكي الفرنسي متمسكا بهياكل المؤسسات الدينية، ما يفسر في رأيه مواصلته استثمار مدخراته في العقارات محترسا من حركات المضاربة، بينما يبدو البروتستانت الجدد أكثر اعتماد على شبكات الإنترنت والانتشار. وهنا لا بد من توضيح نقطة، وهي أن أفكار البروتستانتية هذه، لم تعد حصرا على المؤمنين بها، بل غدت أسلوب حياة ينتهجه جيل شاب من المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس وباقي الأديان. إذ نرى أن هناك تطابقا أحيانا بين أساليب ومهارات البروتستانت الجدد وشبكاتهم، وجيل السلفيين الإسلاميين وحتى الجهاديين أحيانا، وبالأخص على مستوى نشر الأفكار الدينية وتسليعها. ولعل هذا ما كان محل نقاش واسع من قبل الأنثروبولوجي الفرنسي أوليفيه روا في كتابه الجهل المقدس، إذ لاحظ أنّ الأزمة التي نعيشها اليوم تكمن في ظهور سوق ديني قادته وأبطاله شبان صغار يتجولون طوال اليوم في الفضاءات الرقمية، ويؤسسون لعدتهم الدينية وأفكارهم من خلال ما يلتقطونه من أفكار هنا وهناك، دون أن يكون هناك وسيط آخر (الجامع مثلا). وهذا ما جعل الدين ينفصل، وفق روا، عن الثقافة وعن تاريخه، ويساهم في ظهور أصوليات عالمية. وربما هذا ما يحاول دوبريه قوله في كتابه أيضا، فالثقافة البروتستانية، التي تمجد قيم الإشهار والشبابية (الرافضين للذاكرة) هي التي باتت اليوم السائدة والمهيمنة. واللافت هنا أنّ دوبريه اليساري لا يرى حلاً لمواجهة هذا الواقع، إلا من خلال إصلاح المؤسسة الكنسية الكاثوليكية. إذ يرى أنه لا بد من التأقلم من أجل البقاء، فليس بإمكان أحد القفز على زمانه، ولمواكبة الرياح العاتية، توجّب على الكنيسة الرومانية نفسها تزييت عجلاتها، وهذا ما يراه في ما قام به المجتمع الفاتيكاني الثاني، من خلال التخلي عن اللاتينية، والعودة إلى الكتاب المقدس، وتخفيف الشعائر الدينية، ونزع القداسة عن الكاهن، واللامركزية الأسقفية. ودون ذلك لن يكون بإمكان المؤسسة الكاثوليكية الوقوف في وجه غزو أفكار أبناء العم المفتقرين إلى رداء الكاهن في أمريكا اللاتينية.
كاتب سوري