زجاجة شمبانيا وثلاث كؤوس

حسب المصادر المتوفّرة لديّ، فإن الأديب الروسي تشيخوف يمتلك أكبر عدد من التماثيل في روسيا، وفي خارج روسيا. ففي جزيرة سخالين وحدها، التي زارها الكاتب وألّف عنها كتابه الشهير، توجد خمسة نصب تتوزّع شوارعها، وتحمل الساحات التي تتوسّط مدن روسيا صروحا مختلفة الأحجام والهيئات للكاتب، وصنع له المصريّون في السنين الأخيرة منحوتة، لأن المترجم القدير أبي بكر يوسف نقل معظمَ أعماله إلى العربية، وهناك شوارع وميادين عدّة تحمل اسمه في مختلف أنحاء العالم. هذا من ناحية الشهرة، أما من جهة النقد فإن نقادا عديدين يرونه بمنزلة شكسبير وسرفانتس، ولو أني جعلت كتبه بجوار مؤلفات ماركيز وبورخيس في خانة الأدب الحديث في مكتبي، كنتُ عندها أنصفتُ الجميع وأرِحتُ ضميري.
ينتمي تشيخوف إذن إلى الماضي والحاضر، ولا غرو أن ترى صورته بالنظّارات ذات العدستين المدوّرتين تحتلّ واجهة محالّ بيع الكتب، وكذلك المقاهي التي صارت تنتشر في المدن ويقصدها الطلّاب والقرّاء. أنطوان بافلوفيتش تشيخوف، ما زلتُ أذكرُ المرّة الأولى التي زرتُ فيها ميدان تقسيم في إسطنبول، وكنت أحمل معي رواية «المبارزة» وأقرأها في المترو، ولمّا هبطتُ إلى الشارع تخلّيتُ عن جميع مباهج الدنيا، ورحتُ أبحث عن مقهى ليس فيه ضوضاء، وعثرتُ عليه في شارع فرعيّ بعيد، حيث أكملتُ القصّة إلى النهاية، لأعود بعدها مباشرة إلى غرفتي في الفندق وأتمدّد على السرير، أكفكفُ دموعي في أثناء النوم والحلم واليقظة، إلى أن هلّ الفجرُ وانطلقتُ عندها أجوب رصيف البحر، متأملا كيف تختلط الألوان في السماء، ومشبّها اللوحةَ بالنفس البشريّة التي صوّرها الكاتب في شخوص الرواية، تماما مثلما ينظر الربّ إلى أرواحنا، وكيف يمكن للشرّ أن ينقلب خيرا محضا، وكيف تنطلي علينا الأمور في البدء، لكن الأيام تُكشفُ لنا المخبوء الذي لا نراه. إن سريرة الإنسان، هكذا يخبرنا الكاتب، ما هي إلا لوحة تماثل صفحة السماء عندما تنقلب فيها الألوان بين أوقات الظلام والسحر والشفق ووعيد الفجر. وحده الفنان يستعمل نور السماء الطافح كي يكشف الجزء المطلسم فينا بصورة ناصعة. الكتاب الأخير الذي قرأناه لتشيخوف هو «دفاتر سريّة» صدر في العام الفائت عن دار نينوى، ويضمّ قصاصات أوراق عثرَت عليها زوجته أولغا ليوناردوفنا داخل مغلّف يحمل عنوان: «موضوعات، أفكار، ملاحظات، شذرات».

ربما قال تشيخوف هنا ما لم يستطع تدوينه في أدبه، أو ما كان يؤجل كتابته. في إحدى هذه الشذرات نقرأ: «يا للحسرة، ما يرعبني ليس الهياكل العظميّة، وإنما حقيقة أنها لم تعد ترعبني». كذلك هذه الرؤية: «في عالم الحشرات تنبثق الفراشة من اليسروعة، أما في عالم البشر فالطريق معكوس، حيث تنبثق اليسروعة من الفراشة». كما أن تشيخوف عالم اجتماعٍ فذٍّ: «نمنّي أنفسنا إصلاحا اجتماعيا للحياة، لعل الأجيال المقبلة تفوزُ بالسعادة، وهذه الأجيال سوف تقول كالمعتاد: «كانت الأمور أحسن في الماضي، الحاضر أسوأ من الماضي». وأخيرا هذه العبارة المكتوبة بابتهاج: «عندما أصبح ثريّا سيكون لديّ جناحُ حريم أُسكن فيه نساءً سمينات عاريات وأردافهنّ مصبوغة بالأخضر». توفي تشيخوف عام 1904 وأوّل صرحٍ أُقيم له لم يكن في روسيا، وإنما في المانيا، في مسقط رأسه، بادينفيلر، المدينة التي شهدت صراعه الطويل مع الموت. كان يعاني في يومه الأخير من جفاف فظيع في لسانه، ويحسّ به كأنّه قطعة من الجلد، وطلب من زوجته محلول ملح «البرثوليت» لمداواته، لكنّها أرسلت في طلب الطّبيب، لأن تشيخوف بدأ يهذي. كان يتحدّث عن بحّارة مجهولين وعن مواعيد قطارات. أدرك الطّبيب أنّ أجل الكاتب العظيم حان لأنّ حقنة الكافور لم تأت بنتيجة. التمعت في عينيه دمعة لا إرادية واختار أن يسقيه خمرة، ولبّت إدارة الفندق طلبه بزجاجة شمبانيا وثلاث كؤوس. كان الفندق يسبح في صمت كبير وسكون عميق، وكانت في الجوّ رائحة عطنة غامضة، وتنبّه الطبيب إلى طوق الزعفران حول شعر أولغا ليناردوفنا زوجة تشيخوف، وكان على عنقها دبّوس زينة. دخل صبيّ الفندق الغرفة وكان فيها أصوات نشيج يائس مخيفة ومؤثرة. حاول الطبيب أن يكتم فرقعة الزجاجة، وملأ ثلاث كؤوس. وضعت أولغا وسادة أخرى خلف رقبة زوجها، ثم جعلت يده (التي كانت تلهب أصابعها، كما ستكتب لاحقاً) تمسك بالكأس. انتبه تشيخوف وتمتم:
«لم أشرب شمبانيا منذ وقت طويل».
حاول أن يتذكر أمراً. آه! إنه لم يكتب شيئاً منذ أنهى قبل أسبوع، وبمشقة بالغة، مسرحية «بستان الكرز». لم يسمع موسيقى أو غناء منذ الخريف الماضي، كما أن الأشياء التي يريد أن يكتبها غدت بعيدة جدا وخالية من المعنى. حتى هذه الكأس، عندما لا يستطيع أن يكتب عنه كأنه لا وجود له.
– ظننت أني سأموت أمس، واليوم الذي قبله، وقبله…
قال تشيخوف، وغزته نوبة سعال، أحسّ بعدها بشيء من الراحة، ثم بلّل شفتيه بالخمرة وعاد إلى رقدته. – طوال الشهور الماضية كانت تمزّقني مسألة الجذور. أنا بخير الآن باستثناء ومضات تظهر أمام عينيّ. أريد أن أقبّل يدك الصغيرة، يا غاليتي.
بعد أن أتمّ كلامه، استرخى فمه داخل نور ابتسامته. كان يسمع الريح خلف النافذة، وبذل جهداً كبيراً كي يرفع عينيه المُطرقتين، وظهر عندها بسحنة بلون الزّبدة وعينين زرقاوين باهتتين وشعر أحمرَ بلون القرميد، أما الطبيب الألماني فقد كان طويل القامة معضّلاً وله كتفان مربعتان وشارب شائك. كان من نوع الرّجال الحَيِيّين المرتبكين، شديدي التقدير لكلّ ما يحدث. منذ الصباح وهو يشعر بالنكد الدائم دون أن يفهم سبباً لذلك، وكان في مزاج سيئ طوال النهار ومستعدّا للعراك. تحسّن حاله بعد أن غسل جسده بالصابون لكن الشعور بالنكد عاوده الآن. إنها المرة الأولى التي لم يفكّر فيها بالمال الذي يتقاضاه لقاء أتعابه، وأبعد عن ذهنه أنه سيطلب من الزوجة ثمن زجاجة الشمبانيا. حدّق في وجه الرجل الذي يحتضر، ولأنه طبيب مثله أحسّ بأن بشرته تشعر بالحزن بسبب مرضه، ولأنه كاتب القصص التي سلبت لبّ الجميع، ودّ لو أنه يحتضن هذا الجسد الضئيل، عندها سوف يشعر بأنه يحتضن، مطمئناً، العالم بأكمله. فهمت أولغا من تعابير وجهه أنه يريد أن يكلّمها.

قال:
– عليّ أن أخبرك أن النهاية محتومة ومؤكدة.
– أتوسّل إليك أن تفعل ما بوسعك.
قالت أولغا، والتمعت الدموع في عينيها. كان الطقس في النهار مستقراً دافئاً والشمس بدأت في الانحدار، والنهار أخذ يبرد. النوافذ مغلقة في الغرفة، والنار مشتعلة في الموقد، وها هو الوابل يتدافع في الريح الليلية في النافذة. كانت أنفاس تشيخوف تتسارع غير أنه طلب من زوجته أن تفتح النافذة، وأحسّ بالريح تدنو وتلمس جبهته، وبعينين نصف مغمضتين ظلّ يحدّق في المدى المظلم. يا لها من مشاعر حبّ عميقة وهادئة تلك التي أعادت الدماء إلى وجهه! غابت عندها أنداء السّقم عن محيّاه وصار متورّداً كأنه شُفي تماماً من المرض. رفع صوته قليلاً:
– عافاك الله! يا سعادتي، شكرا لك لأنك بهذه الطيبة. فلتكوني مرحة وسعيدة!
سكت، وكان الأسى منعقداً بين عينيه حين تابع:
– أنا متأكد يا عزيزتي أنك فنانة رائعة. بالنسبة إلى المخرج أنت متميزة، وبالنسبة إلى المؤلف أنت بالغة النفاسة، ولديَّ مفاجأة لك…
لم يكمل كلامه بسبب الوهن الشديد، وضاعت آخر كلماته وسط لهاثه الذي بدأ يخفت شيئاً فشيئاً. ساد بعد ذلك جوٌّ من الصّمت، وكانت الساعة الثالثة فجراً عندما دخلت فراشة بجناحين أسودين من النافذة، واتجهت مباشرة إلى المصباح المضاء. في الخارج، كانت السماء الصافية تحتضن غيمة يتيمة، وفي الداخل كان الموت يتفتح بطيئاً. كانت الغرفة موضّبة على أكمل وجه، كما لو أن أحداً لم يقض ليلته فيها. كتبت أولغا في مذكراتها: «كان اضطراب الحياة اليومية غائباً، ولم يبق إلّا الجمال والدعة وجلال الموت». أما عامل الفندق الذي جاء بالشمبانيا فقد ذكر، وهو يصف تلك الليلة بعد سنين: «كان الطبيب يقف بجوار الحائط ساهماً. توجهّت إليّ السيدة بالقول، وكانت تنتحب: إنه تشيخوف، وهو يحتضر. هل تستطيع أن تفعل شيئاً لأجله؟ الموقف في غاية الإحراج». يتذكّر الصبيّ جيّدا الكلمات الأخيرة التي قالها تشيخوف. لقد عاد إليه صفاء صوته، ومثل عاشق ولهان قال: «أقبل يدك الصغيرة، وأنحني لاثماً قدميك الصغيرتين…». أعادت السيدة الرجاء إلى العامل من أجل أن يصلّي. القديسون عديدون، لكن الصبيّ لم يكن يعرف لأيّ قديس يبتهل. اجتاح قلبه في تلك اللحظات حزن لم يجرّبه من قبلُ، وتمنّى أن يتمدّد لا على الآجرّ المنثلم لأرضية الفندق، إنما تحت سماء فسيحة مرصّعة بالنجوم، ويصلّي بصوت عال صلاة ليست هي (أبانا) أو (السلام عليك يا مريم) إنما صلاة أخرى من تأليفه هو. صلاة راهنة ملموسة وتعطي نتائج حتمية، تُشفي في الحال هذا الرجل الذي يحتضر، والذي يحمل الاسمَ ذا النبرة السّاحرة: أنطوان تشيخوف!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول [email protected] الشماسي:

    وصف رائع للحظات النزع والموت أظن فيها شىء من ثقافتنا الاسلامية في وصف سكرات الموت حين يرى الانسان شريط حياته يمر يمر أمامه . ودفعتنا الى إعادة قراءة تيشخوف

  2. يقول سامي سعيد:

    وصف رائع للحظات النزع والموت أظن فيها شىء من ثقافتنا الاسلامية في وصف سكرات الموت حين يرى الانسان شريط حياته يمر يمر أمامه . ودفعتنا الى إعادة قراءة تيشخوف

إشترك في قائمتنا البريدية