«زشت»

هذا مقال صعب الكتابة، لأن من تكتبه هي طفلة في العاشرة من عمرها لا امرأة في أواخر الأربعين، لأن الألم والحرج والأذى المعروضين فيه يخصون طفلة صغيرة لا امرأة على أبواب خريف العمر، لأن ندبة الروح ذات الأربعين عاماً مازالت طرية، ساخنة، متقيحة، إصابة حية خالدة الشباب، هي الوحيدة التي لا تهرم ولا تموت.
قبل أيام تم بث حلقة لبرنامج مقالب كويتي على اليوتيوب ظهرت فيه مذيعتان تستضيفان صغيرة في الثالثة عشرة من عمرها، وكان المقلب يسعى لإبكائها عن طريق نقد شعرها وقوامها وطريقة تزينها. كانت الصغيرة تناضل نفسها ودموعها كي تعطي إجابات «ناضجة» لا تكشف عن طفولتها المقهورة وإحراجها الحارق، طبعاً سرعان ما انهزمت محاولتها، حين غلبتها سنيها القليلة، وذابت عيناها الطفوليتان في كم من الدموع.
زاغ بصري وفوت قلبي نبضات عدة، وكأن الدنيا شريط سينمائي خرب، يلتف «نيجاتيفه» بسرعة وتَلَعْثُم على أسطوانة التشغيل الدائرية عودة للوارء لهذه الصغيرة التي كنتها والتي كأنها ولدت عجوزاً من يومها. منذ أن وعيت على الدنيا وأنا مختلفة تماماً: كنت أطول من كل أقراني، أحمل جسداً طفولياً ممتلئاً وشعراً كثيفاً مجعداً، وقدمين ضخمتين، وشهية مفتوحة للأكل. لكن شهيتي الصحية ما كانت مناسبة «لفتاة»، وصحتي الطيبة واجتهادي الدراسي وتأدبي وحسن خلقي الطفولي ما كانت كافية لتحميني من أذى الناس، الكبار منهم قبل أقراني العمريين. هذا أحد أقربائي الذي هو في عمر والدي يقول كلما رآني: «أنت تأكلين فقط؟ لا يحرق جسدك الطعام أبداً؟»، وتلك صديقة والدتي، أتذكرها تماماً طويلة وجميلة، تنظر إليّ وتقول «زشت» أي قبيحة بالفارسية، وهذه قريبتي التي تقاربني العمر تخبرني: «قدماك كأنهما قدما رجل كبير». هذه أنا هناك، منذ أربعين سنة، أتذكرني محترقة تحت جلدي، هادئة أمام الناس على سطحه. حتى في ذلك العمر، كنت أفهم معنى «حفظ ماء الوجه» أمام الآخرين.
شعور «زجاجي» غريب يتخلل روحي الفتية بعد كل موقف من تلك المواقف، بعد كل تعليق من هذه التعليقات، لا أدري لم «زجاجي» تحديداً، ولكنه الأٌقرب لما كنت أستشعر: مزيج من برودة صاعقة وعرق غزير يضربان جسدي الطفولي حتى يصبح اتزان الوقوف عصياً عليه. كنت كلما ظهرت بين أقراني أحودب ظهري حتى يصبح حجمي أصغر، أخفي قدمي في حذاء أسود حتى يبدوا أصغر قدر الإمكان، أبلل شعري باستمرار وألملمه فوق رأسي حتى لا يظهر تجعده. كنت أشتهي الأكل وأتحرج أن أطلبه، وأتوق للفساتين وأكره التسوق لاقتنائها، وأحب قريباتي ممن هن في عمري وأرتعب من اجتماعي بهن، والذي كثيراً ما يبدأ بفاصل من السخرية التعذيبية حول طولي وعرضي وشعري وشكلي. بت أتخيلني وقتها غولاً بين جميلات، ولربما لم يكن هذا، بمقاييس البعض، واقعاً بعيداً؛ فمعظم فتيات العائلة ناعمات الشعر رقيقات المظهر، وها هي أنا بحجم يضاعف أحجامهن وشعر يتناثر ثائراً على كل مفاهيم النعومة والرقة، وحاجبين معقودين ويدين سميكتين. كم كنت جميلة حقاً بمقاييس الطفولة وكم كنت عاجزة عن رؤيتني..
ولأنني لم أستشعر أنني طفلة مثل غيري، لأن النقد والسخرية خطوا بي فوق عمري سريعاً وبعيداً، أصبحت أنا عجوزاً في جسد طفلة. كنت ألبس فساتين السيدات الكبار وأسمع أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وأدس أنفي الكبير في الكتب علها تعوضني، علها تحبني وترى في شيئا أبعد من قامتي وشعري. وكبرت، كبرت كثيراً، وبقيت داخلي طفلة لم تعرف كيف تحب شكلها، أستشعرها تقف خلف كل رد فعل لا أحبه من نفسي، أو وراء كل لحظة انعدام ثقة أبديها، طفلة لا تزال تحاكمني بقسوة وتشير إلى مظهري، وكل مصاباتي منه على أنها منبع كل عيوبي ومصدر كل سلوك لم أحبه في يوم من نفسي. ما كنت في يوم طفلة أو مراهقة ذات كاريزما جاذبة مطلقاً، وكلما فكرت في هذه الحقيقة، كانت تعود بي لتلك اللحظة: «زشت».
لم يعرف أبنائي هذا الجانب من حياتي إلا مؤخراً، حين زللت ذات حوار بيننا وصنفت نفسي أنني من بين عديمات الجمال من النساء. تصاعدت نظرة ابنتيّ سريعاً إليّ: «ماما؟ هكذا تقولين؟ تصنفين شكلك؟» خفت وخجلت وحاولت تغيير الموضوع سريعاً، إلا أن إصرار الفتاتين وأخاهما على معرفة الحكاية جعلني أسردها لهم بتخفيف وبالكثير من الفكاهة. فقط «هو» يعرف دكانة القصة وأثرها، اختبرها معي في مراحل حياتنا وتحملها وساعدني كثيراً على محاولة تخطيها. وإلى اليوم، حين تطلق ذات العاشرة، رغماً عني، تعليقاً عبر فمي، يرد هو «هلا كففت؟ متى سترين نفسك على حقيقتها؟» يقول أشياء كثيرة، أسمع نصفها بأذن امرأة في التاسعة والأربعين ونصفها الآخر بأذن طفلة في العاشرة، وأحاول أن أقنع نفسي من أجله، وأفشل، وأبقى ألتحفه كله، بكلماته ويديه وصدره لأختفي بينها كلها عن الدنيا وقسوتها.
مبالغة هو كل ذلك؟ ربما، في الغالب قد يكون مبالغة، لكنني أخبرتكم، قرائي الأعزاء، من البداية أن من ستكتب هذا المقال هي طفلة في العاشرة، بعدها محتدمة المشاعر، نابضة الألم، تقف مبللة بعرق خجلها أمام «كوميديانات» لم تردعهم سنها، فاغفروا لها «تهويلها»، فما تستهدف من ورائه سوى أن تذكر صنواتها، طفلات هذا الزمان، المغمورات بأضعاف ما كانت هي مغمورة به من أخبار الجمال والتشجيع على منتجاته ووسائله، أنهن جميلات بطفولتهن الصافية وبشهيتهن الصحية المفتوحة وبإقبالهن على الحياة، أن تقول لهن بأعلى صوتها أن عشن أيتها الصغيرات واستمتعن، ذات يوم ستكتشفن أنكن الآن، في هذه اللحظة الطرية من العمر، الأجمل والأرق والأكثر عيشاً للحياة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ثلاثة من بناتي أوزانهن فوق 100 كيلوغرام!
    أمهاتهن يهتمن بتخفيف أوزانهن بشتى الطرق لأجل الرشاقة ثم الزواج!!
    أنا لا أهتم للموضوع لأني لا أريد أن أتخلص من بناتي روح قلبي!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول رستم تامر:

      أضحى الكثيرون اليوم يتهافتون وراء البوز Buzz والمعنى الاصلي لهذه الكلمة هو طنين الذباب, حسب أهل التخصص في العلوم الإجتماعية يعرف البوز بمحدودية اثره في الزمان و المكان وغالبا ما يكون مضمونه يعوزه العمق والجدية والمصداقية. يلجأ إليه الفرد حين يفقد إهتمام محيطه به على المستوى الإجتماعي أو المهني فيسعى جاهدا ليعوض ذلك بمحاولة جلب الإنتباه في العالم الإفتراضي بشتى الوسائل.

    2. يقول الكروي داود النرويج:

      عزيزي رستم:
      ظاهرة البوز هي للبعض من الأشخاص المشهورين على مواقع التواصل الاجتماعي ولعدة أغراض تسويقية!
      لا مكان للتفاهات بهذه الجريدة العريقة, وليس لي موقع في الشبكات الإجتماعية أو الإعلانية!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    من أحد الأسباب في زيادة الوزن الأدوية!
    يجب مراعاة نفسية البنت بالبيت!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول محمد محمود:

    من رحم المعاناة يخرج الإبداع، لو كنتى طفلة عادية لظللت عادية، للجمال أوجه عدة.

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    لقد تغير اليوم خطك الهجومي على الرجال يا دكتورة حفظكم الله!
    نقدك البناء اليوم منصب على النساء اللواتي يتنمرن على البنات البدينات!!
    نصيحة من القلب أقول:
    بأن علاج حالة البدانة أسهل بكثير من علاج الحالة النفسية!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول محمود من فلسطين:

    أحييكي على شجاعتك الأدبية المتميزة في نقد شكلك و عرض ما لك و ما عليكِ..صدقيني رأيت جمالا في أسلوب كتابتك نم عن جمال داخلي…لا بد له أن ينعكس على مظهرك…فالراحل العظيم د مصطفى محمود لم يكن له نصيب وافر من الجمال أو نعومة الشعر ..لكنه ولشخصه وعلمه وأسلوبه جعلنا نتحلق حوله…نحبه ونقرأ له بشغف متناسين مظهره ..متقبلين ماهيته وسعداء به
    أما أنت سيدتي فأنا لم أرك بعد .. ويكفيني نا رأيت من جمال ما خطت يمينك
    تحياتي الاخوية الحارة وأتمنى لك التوفيق كله

  6. يقول حيدر المحسن (حيدر عبد المحسن):

    قسّم البارئ الأنوثة بين النساء مثلما وزّع تعالى السعادةَ بين البشر؛ فالنساء إذن جميلات ومتشابهات مثلما تشبه حبّة الهيل حبّةَ هيلٍ أخرى، إلا بما تثيره المرأة لدى الرجل من السحر الذي يتعلّق بالأنوثة بالأساس ولا لشيء آخر. فترى امرأة بدينة للغاية لكنها رقيقة القلب، ولها لفتة في صوتها تغري أقسى قلب، بالمقابل تجد فتاة في غاية “الجمال” الذي تحكي عنه الناس لكن في أعطافها يسكن وحش ]عوذ البشر جميعا ربّهم من درجة قبحه.

  7. يقول المغربي_المغرب.:

    الجمال يادكتورة ابتهال ..لاعلاقة له بتلك المقاييس السطحية التي دأب الكثير من الناس على اعتبارها بشكل متوارث …حتى أصبح لازمة تستهلك بين النسوة والرجال على حد سواء… وكأنها ميثاق غليظ لايقبل تبديلا او تعديلا…وزاد في الطين بلة مسايرة الإعلام بأنواعه الثقافي والفني والاجتماعي لهذا الطرح الاستهلاكي…الذي يرى الجمال في المتجلي ويغض الطرف عن غيابه في المضمون…..؛ والعجيب ان مقاييس الشكل المعتدمة لا يذخل في نطاقها ما يجعل المرأة متميزة بشكل حقيقي…وهو الذكاء وخفة الدم…وسرعة البديهة…والقدرة على التعمق…والنجاح العلمي….؛ وتمشيا مع المنظور السائد أصبحت صناعة الوجوه…واجزاء الجسم الانثوي…من ثوابت التفكير الأنثوي …والمبالغة في المساحيق والماكياج…من العادات الراسخة….الى درجة التطرف في الإدمان….!!! الجمال شيء آخر…ومقاييسه لها أبعاد أخرى….ولعل الفلاسفة كانوا أكثر انصافا من غيرهم في هذا المجال..وخاصة في مبحث الجمال…وتحياتي للجميع.

  8. يقول سكينه الكوت:

    ابنتي الغاليه كنتي ومازلتي اجمل بنت لنا ولوالدك …شعرك كنت انا احسدك عليه وكنت اتمناه لنفسي كنا نستمتع بملامحك الاسبانية العربية بعينيك الواسعتان ونظراتك الواثقة من نفسها بل وكنت طالبة موهوبة يحسدوني عليك لنجاحاتك اللامحدوده …هو مجتمعنا القاسي الذي يحبط الانسان باية طريقة فالعيب ليس فينا بل فيهم وبدونية تفكيرهم ….نحبك يا اجمل ابتهال

إشترك في قائمتنا البريدية