غالبا ما اعتمدت القراءات العربية عند الحديث عن تركيا وتاريخها المعاصر، على التاريخ السياسي، والصراعات التي عرفتها البلاد بين الإسلاميين والعلمانيين منذ السبعينيات تقريبا، وحتى قدوم حزب العدالة والتنمية. وباستثناء ربما عالم الرواية، وروايات أورهان باموق بالأخص عن إسطنبول، فإن المتتبع للمكتبة العربية عن تركيا، لا بد أن يلحظ الفقر الموجود في هذه المكتبة، وبالأخص على صعيد معرفة المجتمع التركي وحياته اليومية. وربما أيضا من الاستثناءات الجديدة حول معرفة تركيا المعاصرة، هو ما أخذت توفره بعض المنصات العالمية من أفلام ومسلسلات عن تركيا، وأذكر هنا مثلا منصة نتفليكس، التي أنتجت في الفترة الأخيرة عددا من المسلسلات الإشكالية عن تركيا، وكان آخرها مسلسل (كبرى) الذي يتناول حياة شاب يعلن أنه المهدي المنتظر، في أحد الأحياء العشوائية في إسطنبول، ويقود ثورة ضد السلطة.
اللافت في هذا السياق، أنه وفي مقابل هذا الفقر العربي في معرفة تركيا، والاقتصار على موضوعات محددة، هو وجود كم كبير من الإصدارات الغربية، التي أخذت تبدي اهتماما بجوانب جديدة من تاريخ الحياة اليومية في تركيا. وكمثال هنا، أشير الى موضوع كرة القدم، إذ نلاحظ مثلا في الفترة الماضية، صدور كم كبير من الدراسات والأطروحات عن تاريخ هذه اللعبة، وكيف أصبحت مدخلا مهما لقراءة التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسة التي تعيشها تركيا هذه الأيام، ولتوضيح هذه النقطة، سأحاول هنا تسليط الضوء على مقاربتين جديدتين في هذا الجانب، واللافت أنها لباحثين أتراك، ما يظهر أيضا جوانب مستوى تطور كتابات الباحثين الأتراك عن بلادهم.
أول المقاربات، تعود للباحث التركي كان أفرين، الذي أصدر بحثا مطولا بعنوان «الاستبداد والتنافس وكرة القدم وإعادة تشكيل القومية في تركيا أردوغان» إذ يلاحظ أفرين أن كرة القدم في تركيا لم تعد مجرد لعبة شعبية، بل غدت أيضا ذخيرة سردية للمنافسة السياسية.
خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، شككت الحكومة التركية بلعبة كرة القدم، ولطالما اعتبرتها بمثابة لعبة بدائية وموضع ازدراء، وشكلاً من أشكال الشغب. وفي الخمسينيات وصف بولنت أجاويد كرة القدم باعتبارها لعبة تعتمد على مفاهيم مضللة عن الكبرياء الوطني. في المقابل نلاحظ في العقدين الأخيرين اهتماما كبيرا من قبل السلطة بهذه اللعبة. إذ شهدت هذه اللعبة توسعا هائلا، بحيث أصبح كل شيء أحيانا يبدو وكأنه لعبة كرة قدم، وهو ما نراه من خلال تعليقات الصحف التركية، التي أخذت تصف المنافسة السياسية بين الأحزاب التركية، وكأنها التشامبيونز. وهذا الأمر نراه حتى في ما يتعلق بالسياحة في البلاد، فالسائر في شوارع تقسيم، يلاحظ أن بعض المطاعم أيضا تغير كل يوم في أعلام الفرق العالمية التي تشجعها، بهدف جذب زبائن أكثر. واللافت في ما يتعلق بالسياسة وكرة القدم، هو أن المعارضة التركية باتت تعتمد كثيرا على هذه اللعبة، للتأكيد على القضايات المتعلقة بالظلم والتحيز الذي تعانيه كما تقول، في ظل سيطرة حزب العدالة والتنمية التركي على الدوري السياسي منذ قرابة 25 سنة، واللافت أيضا أن العدالة والتنمية بالمقابل بات يعتمد كثيرا في السنوات الأخيرة على هذه اللعبة، لإيصال رسائل للداخل والخارج. ففي بطولة أوروبا الأخيرة 2024، ظهر أردوغان إلى جانب زوجته (وهي ترتدي معطفا أحمر يشبه لون العلم التركي) وكان ذلك بهدف إيصال رسائل للمهاجرين الأتراك في ألمانيا، بأن قدومه هو بهدف الوقوف إلى جانبهم وهم يشجعون منتخب بلادهم. كما نلاحظ في الحملات الانتخابية المحلية، أن الحزب بات يعتمد كثيرا على اللعبة في تصميم برامجه. في إحدى الحملات، قام الحزب بنشر مقطع دعائي يظهر فريق أردوغان هو من ينتصر في النهاية، حتى لو أدى ذلك لطرد الحكم من المباراة. وهنا يتحول ملعب كرة القدم إلى صراع للتنافس مع الآخر المحلي، أو الغرب، وهو ما رأيناه مؤخرا من خلال اعتراض صحافيين أتراك على قوانين الاتحاد الأوروبي، لرفضهم كما قالوا السماح للجمهور التركي بالتعبير عن شعاراتها، بينما سمحوا بالمقابل للجمهور الإنكليزي بارتداء ثياب مقاتلي الحروب الصليبية، وهو ما يؤكد برأيهم تآمر الغرب على الأمة التركية.
مع ذلك ، يبدو أن العدالة والتنمية، وعلى الرغم من كل محاولاته لم يتمكن من السيطرة على عالم ملاعب كرة القدم، ولم يتمكن من ربح المباريات مع الآخرين دوما، حتى لو كان الحكم (مؤسسات الدولة ) بيدهم. ولعل هذا ما دفع ببعض الباحثين إلى دراسة ملعب كرة القدم كمكان مؤرق للسلطة وسياساتها، وهو ما نراه من خلال كتاب الباحث التركي دوغان أراك «كرة القدم والاحتجاجات والديمقراطية: نشاط المشجعين في تركيا» إذ عاد بنا المؤلف هنا إلى قصة أحداث جيزي عام 2013، وهي الأحداث التي اعترض فيها قرابة 5000 آلاف شاب على السياسات الحضرية التي حاول العدالة والتنمية تطبيقها في مدينة إسطنبول، الأمر الذي دفع بالرئيس أردوغان إلى وصف المشاركين بحفنة من اللصوص. في المقابل يظهر لنا دوغان في كتابه أن هؤلاء المشجعين لم يتشكلوا في أماكن معارضة بالضرورة، أو ينسقوا مع الغرب، كما حاولت السلطة قوله، وإنما تشكل مخيالهم التضامني في ملاعب كرة القدم.
كان الأنثروبولوجي سكوت أتران قد لاحظ أن كرة القدم لا تساهم فقط في خلق عالم من المتعة، بل الأهم من ذلك في تشكيل روابط متينة من الصداقات والتحالفات الثقافية. وربما هذا ما نراه في الكتاب فمن خلال تحليل التويتات التي نشرها ستون من مشجعي كرة القدم، والذين شاركوا في الاحتجاجات، تبين أن رابطة المحتجين قامت في الأساس على تحالف بين مشجعي ثلاثة أندية (غلاطة سراي التركي ـ بيشكتاش ـ فنربكشه) إذ شكلوا تحالفا وأطلقوا عليه اسم «إسطنبول المتحدة». وقد لعب هؤلاء المشجعون الدور الأساسي في مقاومة قوات الشرطة وتشكيل الحواجز، واربكوا السلطة، وجعلوا من كرة القدم مكانا للتنافس وإيصال رسائل سياسية في المقابل، ما يجعل من هذه اللعبة مدخلا جديدا لفهم تاريخ تركيا القريب، أو واقعها اليوم.