زلزال أنطاكيا وسائر المشرق!

حجم الخط
3

أنطاكيا الوادعة، لطالما اتكأت على نهر العاصي، تقع ثم تقوم مع كل زلزال عبر القرون، لكنها اليوم انهارت وتبعثر ركامها في نهر العاصي، بانتظار قيامة جديدة كطائر الفينيق يخرج حيا من وسط الرماد، وإن طالت هذه المرة. لا يعرف كثيرون رمزيتها التاريخية، فأنطاكيا «تاج الشرق الجميل» هي عاصمة سوريا والإمبراطورية الأغريقية السلوقية لقرون، فبعد أن اختار موقعها الإسكندر المقدوني، بناها أحد أعوانه سلوقس الأول المقدوني، وسماها أنطوخيوس على اسم والده ومنح اسم والدته «لاثوديسيا» لمدينة تشبهها جنوبا وهي التي نعرفها اليوم باسم اللاذقية. فيها أقيمت أول كنيسة حسب بعض المؤرخين، كانت شرفة بيتي تطل على تلك الكنيسة المعلقة في الجبل، وتظهر بجوارها مغارات حفرت منذ قرون، كانت مخابئ المسيحيين الأوائل الهاربين من الاضطهاد في القدس. ثم تحولت أنطاكيا إلى مركز للبطريركية المسيحية الشرقية، ومنها خرجت كنائس المشرق الخمس الروم الأرثوذوكس والكاثوليك والسريان روم وأرثوذوكس والموارنة.
صمدت لقرون أمام زلازل وغزوات، تحتها في باطن الأرض تتنازعها صفائح أرضية مختلفة، الصفيحة العربية تتجه شمالا، والأناضولية تعاكسها، وفوقها شرائح سكانية مختلفة أيضا، عرب وترك، سنة وعلويون، مسيحيون ويهود، لا هي تركية الهوية بالكامل كما الأناضول، ولا عربية الوجه بالكامل كما جزيرة العرب، ولا مقدونية اللسان مثل مؤسسيها اليونانيين، هي «أنطاكية» الهوية، وفي زلزالها الأخير هزت أنطاكيا سكانها الذين يختصرون «سائر المشرق». وكذلك تنازع فيها حزبا السلطة والمعارضة لعقود، نصف جمهورها لحزب العدالة وحليفه القومي، ونصفه الأخر للحزب الجمهوري المعارض، وقاعدتهم الانتخابية من العلويين العرب الممتدين لجبال اللاذقية، المسكونين بالقلق من ذكرى «السلطان» والعثمانية.

اهتزت أنطاكيا ومرعش بسكانها الأتراك والعرب والكرد، واهتز المشرق بأسره، وقد يكون مايو المقبل موعدا لهزة ارتدادية تركية في الانتخابات العامة

ومع سيطرة الحزب الجمهوري المعارض على مجلس المحافظة فيها «محافظة هاتاي» في السنين الأخيرة، بدأت مشاحنات واتهامات بقصور الدعم الحكومي في أنقرة عن محافظة هاتاي، وكان من أبرز الملفات المطروحة ميزانية تهيئة البنية التحتية في المحافظة لمواجهة الزلازل، وهذا يقتضي إزالة المباني القديمة وإبدالها بمبان بمواصفات مقاومة للزلازل، وبالفعل بدأت منذ 2015 حملة كبيرة في أنطاكيا وجوارها لهدم المباني القديمة، وكانت البناية القديمة والجميلة التي سكنت فيها، والتي يحتضنها الجبل وتطل على نهر العاصي، من المباني التي هدمت، لكن حركة البناء هذه تباطأت في السنوات الأخيرة، وتركزت الجهود في إسطنبول ومحيطها، كذلك الرقابة الحكومية على المباني والمجمعات السكنية في أنطاكيا والمحافظات الجنوبية كانت ضعيفة، وهذا ما أدى لبناء مجمعات سكنية حديثة، من دون مواصفات المناطق الزلزالية، انهارت على رأس ساكنيها ومنهم عائلات سورية كاملة دفنت تحت الركام ، كمجمع «ريسدنز» في أنطاكيا، بينما ظلت مبان مجاورة صامدة بفضل حسن بنائها، ولذلك دعت نقابة المحامين التركية لإيقاع عقوبة «القتل العمد» بالمقاولين الفاسدين الذي بنوا هذه المجمعات المغشوشة، الذين أيضا تعذروا بقوة الزلزال، لإخفاء قصورهم! كل الذين نجوا في أنطاكيا ومرعش، في كلس وعنتاب، ظلوا مشردين لثلاث ليال قضوها في سياراتهم أو في الحدائق العامة، خوفا من انهيار أبنيتهم المتصدعة، وحتى الذين دخلوا لقاعات إيواء، لم يجدوا أي إمكانيات مجهزة فجلبوا معهم أفرشتهم وأغطيتهم ومن لم يجد فقد أمضى ليلته على «كرتونة»! التعذر بضخامة الزلزال ليس موضوعيا، فحتى الرئيس أردوغان عاد وأقر بضعف «الاستجابة الأولية» ، فخيم الإيواء والمساعدات الغذائية من أبسط المتطلبات التي يفترض أنها معدة مسبقا لمواجهة كارثة كهذه، وتركيا يفترض أنها مستعدة منذ زلزال أزميت عام 1999، الضخم هو الآخر، لزلزال مقبل، وجمعت الحكومة ما يقدر بـ4 مليارات دولار من «ضريبة الزلزال» المفروضة على المواطنين، وتم توفير دعم هائل من البنك الدولي والحكومة على مدى عشرين عاما لمؤسسة «أفاد» المختصة بالكوارث والزلزال، لكن ما حصل هو أن الاستعدادات تركزت على إسطنبول ومحيطها، التي شهدت حركة بناء وتجديد في البنية التحتية وإزالة للمبان القديمة، أما المحافظات الجنوبية كأنطاكيا/هاتاي فلم تحظ بالاهتمام المطلوب، وها هي تصبح أكثر المناطق المتضررة من الزلزال في تاريخ تركيا، هذا كله سبب غضبا شعبيا كبيرا وانتقادات للحكومة، حتى من أنصارها في انطاكيا.كان صديقي التركي سيف الدين أولمز يحدثني قبل الزلزال بيوم واحد فقط، وهو من أنصار حزب العدالة في أنطاكيا، كان يخبرني عن استعداداتهم للانتخابات المقبلة، ويقول «سنحتفل بفوز الطيب أردوغان إن شاء الله» وبعد الزلزال، وبعد انقطاع الاتصال به ليوم كامل، أرسل لي لقطة فيديو لعمارته المقسومة نصفين، وأسرته المشردة بلا مأوى، واشتكى بشدة من غياب فرق الإغاثة الحكومية «أفاد»، وانعدام أي معونات غذائية وخيم للإيواء ليومين متتالين، وعندما سألته عن موقفه من الانتخابات المقبلة، صمت تماما! وهكذا الحال مع كثيرين.
كان زلزال أزميت عام 1999 سببا في صعود حزب العدالة وأردوغان للحكم وفوزهم في انتخابات 2002، بعد ضعف أداء الحكومة آنذاك، وقد يكون زلزال مرعش وأنطاكيا سببا مباشرا في إضعاف فرص فوز حزب العدالة في انتخابات مايو/ أيار المقبلة. لقد اهتزت أنطاكيا ومرعش بسكانها الذين يختصرون المشرق، الأتراك والعرب والكرد، السنة والعلويين، المسيحيين واليهود، لقد اهتز المشرق بأسره، وقد يكون مايو المقبل موعدا لهزة ارتدادية تركية في الانتخابات العامة.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فراس-سوري في ميونخ:

    للاسف تبدو فرصة اردوغان للفوز بالانتخابات ضعيفة جدا، وللمفارقة فوز المعارضة لن يجلب الى المتضررين الخير المرجو فهؤلاء جربهم الاتراك عقودا وكانت تركيا في عهدهم في اسوأ حالاتها، لكن الكارثة الآن كبيرة والصدمة من الواقع السيء تنسي او تعمي عن الأسوأ….
    المشكلة من وجهة نظري ان الاتراك السنة لايصوتون من منطلق طائفي على عكس العلويين الذين يحكم تصويتهم المعيار الطائفي الحاقد الوحيد الاوحد…
    منصورين بعون الله

  2. يقول علي:

    انطاكيا وما الاراضي المسماه تركيا هي أرض عربية اكثر من جزيرة العرب التى عناها الكاتب. جزيرة العرب في التاريخ هي جزيرة البصرى في العراق. وهي معدل العروبة والحضارة

  3. يقول علي:

    معدل…مهد

إشترك في قائمتنا البريدية