ثلاثة أيام بلياليها، يوجه المنسق الأممي للإغاثة في شمالي سوريا، عبر قناة «الجزيرة» النداءات الواحد تلو الآخر.
الشاب يجلس في عمان، أمام الكاميرا، ويغرق في التفاصيل، وقناة «الجزيرة» تطلق في وجهه السؤال تلو الآخر، والمختصر أن الإغاثة في الشمال السوري المنكوب تواجه لوجستيات معقدة!
النكبة عند المنكوبين أصلا في إدلب وجوارها ونصف حلب بالأطنان، وتتجول بين الناس، وما تبقى من خيم وأبنية بائسة بالجملة.
ما نفهمه من توسلات الممثل الأممي، أن الجميع في النظام والتحالف معه، وفي من ضده ومن معهم، أوقعوا 4 ملايين سوري منكوبين في كمين «التسييس» لأزمة إنسانية بحتة، فكرتها عدم وجود – ولو دولة واحدة معنية بالمنكوبين في الشمال السوري – فتركيا مشغولة بحالها، والعالم يتسابق للاهتمام بها. أما مغازلات مناطق النظام السوري فبدأت مبكرا، ولا أحد من الذين تسببوا بتشريد الشعب السوري قدم ولو «بطانية» لهؤلاء المفجوعين.
الزلزال «المسيس»
نفهم حتى من تغطية الفضائيات اللبنانية أن «التسييس» باتجاهات، فالدولة السورية، التي قصفت هؤلاء بالبراميل المتفجرة، تريد أن تشكل «المرجع الأساسي» لأي مساعدات تصل إليهم، وعلى طريقة «غوار الطوشة» عندما وقف مع «أبو عنتر» على طرف الزقاق في الحارة، وهما يوقفان المارة بصفتهما شرطيين يتقبلان الرشوة، ولو بعلبة سكر.
في ذلك المشهد المتكرر الآن، تفلسف «أبو عنتر» وأقنع شابا عابرا أن «البالطو»، الذي باعه إياه يناسب قياسه، لأنه وعائلته معا يمكنهم الحصول على الدفء سويا في نفس البالطو.
النظام الدولي من جهته، لا يريد مخاطبة تلك «الشيفونية» البيروقراطية البوليسية، ويسعى لحرمان حكومة دمشق من «بريستيج تنسيق المساعدات» والطرق طبعا تالفة، ولا تصلح لنقل الشاحنات، بعدما قصفها الجميع من «أبو البراميل» إلى «بتوع الخليفة».
النتيجة واضحة الملامح، ويمكن رصدها من الكاميرا المتجولة في الموقع، من باب تعزيز مصداقية التغطية، باسم النسخة التركية من «سي أن أن»، حيث المقارنة تقول الكثير.
رصيف ومستشفى
ينقل القتيل التركي بسيارة إسعاف. أما السوري ففي شاحنة مخصصة لشوالات الحبوب.
جثة التركي تدخل مستشفى وتغلف بذلك الثوب المعدني، الذي نشاهده في أفلام تلفزيون «نتفليكس»، أما شقيقه المتوفى السوري فيرمى على الرصيف، وينتهك خصوصيته في الموت، كل من يكشفون غطاء الكفن للتوثق من هوية أحبائهم.
أرهقتنا، صورة تقف كاميرا المعارضة السورية – التي حصلت على مقاولة التغطية المتلفزة فيها أمام المستشفى الوحيد في الموقع – فواجهة المكان تشبه أحد المقاهي الشعبية في ليبيا، ولا يوجد ما يوحي بمستشفى.
بلدوزر وحفار وأجهزة التقاط ثاني أوكسيد الكربون في أرض الكارثة التركية، وشاكوش ومجرفة في الجانب الآخر وعدد قليل من المنقذين المتطوعين يحفرون بالأيدي والأرجل.
تلك حياة لا يمكنها أن تكون عادلة، بصراحة تغطية «سي أن أن» الأمريكية المباشرة لمسار الأحداث أشعرتني كمشاهد بالخجل الشديد، من أني إنسان ولدت في القرن العشرين، مع هؤلاء القوم الذين يديرون الأمور في «المزرعة الكونية».
معيب وغير أخلاقي، ومن الجهتين ما يجري مع النسخة السورية من الزلزال.
الأردن وقانون قيصر
في المقابل، مشهد كاميرا التلفزيون الرسمي الأردني – وهي تنقل تحرك قافلة الإغاثة الهاشمية للشعب السوري، حيث «النشامى» يتحركون لمساعدة «الجار والشقيق» – يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي، حيث لا يوجد ولا أردني واحد صغير أو كبير ينتقد توجيه المساعدة إلى أي ضحية سوري، بصرف النظر عن مكانه أو ولائه السياسي.
الأهم أن البناء بعد الآن ممكن على قرار الأردن تحريك المياه الراكدة وكسر النمط السياسي، في إدارة العلاقة مع الجار السوري، حيث أكل قانون قيصر اللعين من أكتاف القطاعات الأردنية الكثير خلال سنوات التشدد بالتطبيق.
قالها أحد المعلقين على شاشة «المملكة»، ونعيدها بعده ومعه: الهوس الأردني الرسمي في الالتزام الحرفي بقانون قيصر، لا مبرر له، ويكشف ضعفا لا يناسب النشامى، وأي تحرك أردني لتجاوز هذا القانون الظالم نصفق له، ويمتلك كل الشرعية، والمطلوب من حكومتنا فقط اتخاذ المبادرة.
خلافا للمنظر السياسي، الذي ظهر في تلفزيون «الميادين» ليبرر معاقبة شمال سوريا، بتحمل كلفة الانشقاق واحتضان «المؤامرة»! نقول إن إغاثة أي إنسان سوري واجب أخلاقي أرقى من الاعتبارات السياسية.
لذلك طبعا نصفق للمنقذين، وهم بكامل هيبتهم وعدتهم يبدأون الحفر بعد نصف ساعة من وصولهم إلى بناية تهدمت قرب الساحل السوري على رأس ساكنيها، وفي مدينة تتبع النظام، حيث لا فرق عند الحاجة بين مواطن سوري وآخر في قياسات النشامى.
لكن في المقابل، وبعد «بروفة» حادثة «الويبدة» في عمان العاصمة – وتمنياتنا أن يحمي ألله الأردنيين شعبا وقيادة ويجنبنا الأشرار – نضم صوتنا للتحذير المتكرر، الذي عرضه بلباقة وهدوء مجددا المختص المهندس عبد الله غوشة، عبر شاشة فضائية «رؤيا» بخصوص «كودات البناء» والأبنية القديمة في مدن الكثافة السكانية الأردنية. نعرف أن فتح هذا الملف معقد ومكلف. لكن وجب فتحه اليوم قبل وصول الهزات الارتدادية.
٭ مدير مكتب «القدس العربي» في عمان