لم يعد ممكناً في العصر الراهن الحديث عن تصور للسياسة الأمريكية، يتوزع بين الجمهوريين والديمقراطيين، وفي الوقت الذي يعاني فيه الجمهوريون من ارتدادات الترامبية، وتتوزع وجهات نظرهم حول مدى قدرتها على احتواء المؤيدين لتوجهات الحزب وسياساته، فالديمقراطيون بدورهم عملوا على مجموعة من التسويات، التي سبقت الانتخابات للالتفاف حول جو بايدن، ومن غير المتوقع أن يتأجل الخلاف بين أجنحة الديمقراطيين طويلاً، وسيحضر وقت للحديث عن تنازلات سابقة، والبحث عن مكتسبات جديدة.
يتعقد المشهد الأمريكي مع الاستقطاب الشديد الذي أخذ يجنح، بعد صعود حركة «حياة السود مهمة» إلى الواجهة على الجانب الديمقراطي، والسلوك الميليشياوي الذي أظهرته مشاهد اقتحام الكونغرس، من جانب مناصري ترامب، وينتج ذلك طيفاً واسعاً من الحسابات حول سلوك الإدارة الأمريكية، وإذا كان الاقتصاد معياراً أساسياً في توجيه الدفة السياسية، في بلد مثل الولايات المتحدة، وكما أوضحت الفترة الرئاسية المضطربة للرئيس ترامب، فإن الظروف الاقتصادية المواتية يمكن أن تحيد أثر الصراع الاجتماعي، والعكس صحيح، وأمريكا حالياً في معاناة اقتصادية، والسلوك المتوقع يجب أن ينصرف لمعالجة حالة الانكماش وتحويلها إلى رواج، وسيفعل الأمريكيون ذلك، حتى لو كانت الحلول في خوض التصعيد أو الاستسلام للتهدئة على المستوى الدولي. نقاط التقاطع كثيرة والملفات السياسية الدولية ممتدة ومتشعبة، وخريطة المنافسين الدوليين والحلفاء تشهد تغيراً مستمراً، والجميع لديه مفاتيح في الإدارة الأمريكية، خاصة في ظل وضعية عدم استقرار تيار واضح، يمسك بالأمور بشكل كامل، ويكاد الوضع يكون مستغلقاً على الفهم، أو على الأقل يتطلب فهماً مختلفاً عن السائد، في أوساط طائفة واسعة من الخبراء العالميين في الشأن الأمريكي.
الملف الإيراني يمثل أحد الموضوعات التي تظهر تناقض السلوك الأمريكي، فخلافاً لتوقعات مبكرة بمعادلة جديدة أفضل للعلاقة مع الإيرانيين، يطلق الرئيس بايدن تهديداً للإيرانيين بعد الضربات الجوية لأهداف في سوريا، بأنهم لن يفلتوا من العقاب، ولا يعني ذلك أن الأمور متجهة للتصعيد بالضرورة، خاصة أن الإيرانيين يعلمون أنهم ربما يذهبون إلى طاولة المفاوضات قريباً، ومزيد من التوتر قبل التفاوض أمر مفيد، فهو يعزز الموقع التفاوضي لأي طرف، خاصة الطرف الأضعف. يقف الرئيس الأمريكي على أرضية واسعة من الخبرة السياسية، ويبدو متحرراً من ضغط الفترة الأولى التي تسعى للمحافظة على فرص الترشح والفوز بفترة رئاسية ثانية، لأسباب تتعلق بعمره وحالته الصحية، ولكن موقعه الحزبي أيضاً يجعله حريصاً على التجانس بين التيارات المختلفة داخل الديمقراطيين، خصوصاً تيار بيرني ساندرز، الذي ظهر في ملابسه البسيطة وقفازاته الشهيرة في حفل التنصيب، وكأنه الدائن الذي ينتظر موعد الاستحقاق، ويبدو أن تركيز الصحافة على القفازات، ووجود الكمامة على وجه ساندرز أضاعا فرصة كبيرة للتعرف على ملامح وجهه، ومحاولة قراءتها في لحظة كان يظهر فيها أمام العالم بأسره. لم يبدأ التواصل الفعلي بين المنطقة العربية والرئاسة الأمريكية، توجد بوادر عديدة للتوجهات، ولكنها تفتقد لخطوات حاسمة، فالمؤكد أن الأمريكيين سيضغطون من أجل تعزيز الحريات والديمقراطية، التي يعترفون بهشاشتها، ومع ذلك فحدود الضغط ليست واضحة، والتقرير الذي أطلقته المخابرات الأمريكية بخصوص قضية الصحافي جمال خاشقجي مؤخراً لم تترتب عليه إجراءات أمريكية بصورة مباشرة، مع الاحتفاظ بهامش واسع من التوقع لتحركات مستقبلية.
الرئيس الأمريكي قد يحتاج فترة أطول لاتخاذ قرارات كبيرة ومؤثرة في النطاق العالمي وفي المنطقة العربية أيضاً
أسست إدارة ترامب لحالة من الميوعة في هيكلية التواصل الخاصة بالبيت الأبيض، فالرئيس السابق كان يقوم بطرد المستشارين واستبدالهم بصورة مرهقة، والحالة اليوم لا تختلف كثيراً مع الرئيس بايدن، فالمستشارون حوله يمثلون تيارات وتوجهات مختلفة داخل الحزب الديمقراطي، بعضهم يتأثر بالمبالغين في التوقعات، والباحثين عن إجراءات راديكالية والبعض الآخر، ومنهم الرئيس، تقليديون يحملون القيم الديمقراطية التي تعود إلى رؤساء مثل، كارتر وكلينتون.
أياً يكن من استغلاق في فهم المطبخ السياسي الأمريكي، فإن جميع الأدوات التاريخية من دبلوماسيين وأصدقاء سابقين للساسة في واشنطن، لا يبدون ناجعين، خاصة، إذا كانوا يحملون الأفكار والانطباعات القديمة نفسها، فما يجري على الأرض في شيكاغو ونيويورك ولوس أنجلس في البنى الحزبية المغذية للكتلة الديمقراطية، يشكل تحدياً جديداً غير مفهوم بالنسبة للعقلية العربية، وربما العقلية السياسية في أي مكان آخر غير الولايات المتحدة، فبعض الأمريكيين أصبحوا يتنادون بتعبير «يا رفاق»، والأمور لم تعد واضحة لأسباب كثيرة، نتيجة التوتر السياسي الداخلي، والمستجدات في شكل المجتمعات ونظرتها إلى دور الدولة بعد أزمة كورونا، التي ما زالت تتوالى فصولها حول العالم. والرئيس الأمريكي قد يحتاج فترة أطول لاتخاذ قرارات كبيرة ومؤثرة في النطاق العالمي وفي المنطقة العربية أيضاً، وربما يجب التمهل في إطلاق الرهانات على التيارات والأجنحة المختلفة داخل الإدارة الأمريكية، والاستثمار في العلاقات وحملات التأثير، فهذه الإدارة لم تتشكل عملياً بعد، وما زالت في مرحلة المواجهة بالغة السيولة مع مشكلاتها الداخلية، وفي خضم مراجعات كثيرة للبحث عن هوية واضحة، خاصة على المستوى الدولي، ولذلك فمن يطرحون أنفسهم بوصفهم أصدقاء للجانب الأمريكي، وخبراء في وضع الرسائل في السلة الصحيحة في واشنطن، ويتأهبون للحصول على مواقع متقدمة بناء على ذلك، عليهم مراجعة أنفسهم بصورة موضوعية، تجنباً لانطباق مقولة الشاعر: وكلٌ يدعي وصلاً بليلى.. وليلى لا تقر لهم بذاكا، وليلى البيت الأبيض في هذه الحالة ليست في المزاج المناسب لاستيراد المزيد من الصداع من الخارج.
كاتب أردني