إلى جانب الاهتمام الكبير الذي يحظى به زمن الشعر، سواء من قبل المواكبات النقدية أو الأطاريح الجامعية، فإن زمن الشاعر، هو أيضا يواظب على استقطابه لمختلف الاختصاصات المعرفية، التي تحاول كل من جهتها، إماطة اللثام عن العوامل الفاعلة في شحذ الملكة الشعرية أو تعطيلها. وهو موضوع لا يخلو من مسحته الدرامية، لكونه يقارب جوهر تلك اللحظة الحرجة، التي يفقد فيها الشاعر مؤقتا، أو إلى الأبد، قدرته على الكتابة، حيث يغادر مضطرا زمنها الحي، إلى زمن آخر رتيب، تغشاه سكونية التبلد، وتفقد فيه الحواس الباطنية توقدها الأسطوري، إثر إصابتها ودون سابق إنذار بحالة من الخمول الممض، الذي يدفع الذات الشاعرة إلى الامتثال القاسي لما يمكن توصيفه بقانون السكتة.
ومن المعلوم أن ملكة الكتابة تمتلك قوانينها الخاصة بها، باستقلال شبه تام عن برمجيات وتطلعات الشاعر. فقد تكتفي بملازمته خلال مرحلة جد مبكرة من حياته، لتعلن عن هجرتها له دونما سابق إنذار. كما أنها في حالة أخرى، قد تؤجل زمن تعاقدها معه إلى مرحلة متأخرة من حياته، فضلا عن حالات أخرى جد استثنائية، يحظى فيها الشاعر باستمراريته، حيث يكون مدعوا للتعايش مع تلك الانقطاعات التي تنتاب مساره بشكل طبيعي من حين لآخر.
وبفضل ما يتمتع به هذا الموضوع من إثارة، فقد استطاع على امتداد أزمنة ثقافية طويلة، أن يراكم حصة كبيرة من الإشكاليات النظرية المتعددة والمتنوعة، من حيث اختصاصاتها ومرجعياتها، بحثا عن سر ذلك الجفاف المباغت الذي يعصف بحدائق القريحة كي يحولها إلى أرض بوار. فما من علم إلا ويعتبر نفسه مخولا أكثر من غيره للكشف عن أسرار الظاهرة، سواء تعلق الأمر بعلوم النفس، الباحثة عن دور ميكانيزمات الطفولة والمحيط الداخلي والخارجي، في تفجير المواهب الفكرية والجمالية، بما يتنازعها من أهواء وميولات، أو بعلوم الأعصاب المنصبة أساسا على دراسة وظائف تلك الآلة المعقدة المسماة بالدماغ، التي أسندت إليها الطبيعة مهام تصنيع كفايات الباطن والظاهر، التي يوظفها الشعراء عادة في ممارسة حضورهم الرمزي تحت سماوات هذا الكون. ومن الواضح أننا نشير في هذا السياق، إلى الشعراء الحقيقيين الذين تشي شعرية نصوصهم العالية بتجاوزهم حدود الممكن، وأيضا بانفتاحهم على أفق الاستحالة الشعرية، ما يغري بقراءة نصوصهم انطلاقا من المرجعيات العميقة، التي تتداخل فيها مقولات الرؤيا، بمقولات الوحي والإلهام. وهو ما يقودنا إلى إبراز أهمية تلك الخاصية التي تتسم بها بعض النماذج البشرية دون غيرها، والمتمثلة في مستوى الكفايات الروحية والعقلية التي تتمتع بها، والمؤثرة بشكل مباشر في تلقيها لتلك الإشارات الباطنية، التي تهتدي بها في تدبير أفكارها، وقراراتها، أو أقوالها. وهي خاصية تعتبر بحق من بين أهم العوامل الأساسية المساهمة في الارتقاء بالحضور الإنساني إلى مقاماته الجديرة به، نظرا لأن الطاقة الخلاقة الكامنة في الدواخل البشرية، سواء بتوجهها الإيجابي أو السلبي، تستند في حركيتها إلى مدى قابلية الذات لتلقي إشاراتها، انسجاما مع السياق الذي تكون موجودة فيه، والمراوح بين المجال الديني الإبداعي، والعلمي، فضلا عن مجالات اليومي التي يتطلب تدبيرها دقة الحسم وصرامته. علما بأن الشعر يظل في اعتقادنا الجسد الأكثر تفاعلا مع القوانين الباطنية المؤطرة لحركية هذه الإشارات. فعلى ضوء تردداتها، يمكن مساءلة تلك التقطعات المفاجئة التي تتخلل مسارات الشعراء الأساسيين، قصد الاستناد إلى خلاصاتها، في رصد وإعادة ترتيب مكونات المشاهد الشعرية التي تغص بها جغرافيات العالم، ذلك أن الشاعر المنسجم ذاتيا مع خصوصية الطقس الذي يمليه شرط الكتابة، هو وحده من يمتلك القدرة على تلقي الإشارة، وعلى سماع ترنيمة النداء، التي تستدرج روحه إلى بوارق البوح. بمعنى، أن شرط الكتابة يقترن حتما بشرط النداء الذي هو في حد ذاته بمثابة دعوة باطنية، للحلول في طقس استحضار أطياف ذلك الجوهر، اللائذ بمدارات التخفي. ودون هذا الشرط سيجد الشاعر الحقيقي نفسه محبطا تماما أمام جبروت خواء عادم يصرفه عن فعل القول، وينأى به عن فعل الكتابة، كما يحدث أن يعصف بتوازن حياته، ليحشره في حالة قصوى من اليأس، الذي قد ينتهي به إلى مصائر معتمة، قوامها الانتحار الرمزي أو المادي. وللذاكرة أن تستحضر في هذا السياق شعراء وكتابا من قبيل، يوكيوميشيما، جورج تراكل خليل حاوي باول سيلان، سيلفيا بلات، جيرارد دينيرفال، تيسير سبول، سيرغي يسينين، إلى آخر اللائحة التي تضم أسماء استثنائية ضاقت بهم سبل الحياة، وسبل العبارة، فاستسلموا طائعين لنداء الرحيل.
إن ما يعنينا أساسا من ظاهرة انفصال زمن الشاعر عن زمن الكتابة، التي قد تبلغ مداها في إقدامه على الانتحار الجسدي أو السيكولوجي، هو تلمس حدود تلك العلاقة الوجودية القائمة بين شعرية متميزة بعمقها الرؤيوي والجمالي، وأخرى مصابة بحالة مزمنة من العي، الذي يستحثها على مداراة بؤسها، بافتعال حالات ومواقف فكرية وسيكولوجية كسيحة، ومجردة من نعمة البوح والرؤيا. والملاحظ أن هذه النماذج الرديئة التي ما تنفك تزحف علينا من كل حدب وصوب، وأنى حللنا وارتحنا، غير مهتمة بمحنة انفصالها عن زمن الكتابة، حيث لا دراية للأقلام الجافة، بالأحوال والإشارات، والمشاهدات، أو المجاهدات، والمراتب، بما يتخللها من بسط وقبض، لأنها وبكل بساطة مجرد أداة معبأة بمقدار معلوم من مادة الرقن، وغير معنية بما يحدث أو يجيء داخل الذات البشرية أو خارجها. وبالتالي، فإن ما قد تتعرض له من توقف أو انقطاع عن القول، يكون فقط نتاج استيفائها لزمنها الوظيفي، أو بسبب فساد يعتري تركيبتها الكيميائية. وذلك هو سر اكتظاظ المشهد بزعيق ادعاءاتها.
غير أن المفارقة التي تهمنا في هذا السياق، هي استماتة غير قليل من الشعراء المكرسين على استمراريتهم في تحيين حظوة الحضور، رغم فداحة الجفاف الذي يحدث أن يعصف خلسة بقرائحهم إلى غير رجعة، وهي مفارقة لا تخلو من الغرابة، حيث لا مناص من التساؤل عن مصداقية هذا التكريس، في علاقته بعجزهم عن استيعاب الفجاجة التي أمسى عليها واقع حالهم الشعري.
إن نسبة كبيرة من هذه النماذج، العالقة بأشواك الكتابة، تقتات إبداعيا، على بقايا إشعاعها المتقادم، لتكون الفئة الأكثر إساءة للشعر، نتيجة انتشار عدوى رداءتها في دوائر الشعراء والنقاد على السواء. لكن ومع ذلك، فإن هذه المفارقة لن تصرفنا مطلقا، عن الاحتفاء الدائم بتلك الرموز النادرة، التي تتوزع على جغرافية الشعر العالمي، مستسلمة لنداءات حروف لا تنال من خفتها ترهلات الأزمنة.
شاعر وكاتب من المغرب