يوم مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض، ألقى في كلمة الوداع جملة ثقيلة: «سأعود بشكل من الأشكال». لا أتوقع شخصيا أن يعود ترامب للشأن العام، وإن عاد، فسيكون في شكل فضائح ومتابعات وتسريبات، لما اعترى ولايته مع خصومه ومواليه على السواء، لكن الكتلة من ناخبيه لا يمكن أن تنزوي بسهولة بالنظر إلى حجمها، ولم تكن دعوة الرئيس بايدن للوحدة تنصرف للماضي القريب وما تخلله من شرخ، بل إلى المستقبل وما يتهدد أمريكا من تصدع تغذيه الاتجاهات الشعبوية.
من الأخطار الكبرى التي تتهدد الغرب وبالتبعية العالم، الشعبوية. وقد ذهب عالم السياسة الفرنسي بيير روزانفالون إلى اعتبارها ظاهرة القرن في كتاب له بعنوان «قرن الشعبوية». وهي على خلاف ما يبدو ظاهرة معقدة، يتم خلطها في غالب الأحيان بالديماغوجية، وهي لا تستند إلى مرجعية نظرية كما الليبرالية، أو الاشتراكية، أو حتى الفاشية، فضلا عن أنها تتوزع ما بين شعبوية يمينية هي الاتجاه الغالب، وشعبوية يسارية يتم التغاضي عنها. هي ظاهرة جديرة بالاهتمام كما يوصي روزانفالون، وينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد.
تبزغ الشعبوية من رحِم الديمقراطية (ومن العسير الحديث عن شعبوية حيث لا ديمقراطية) وتفضي إلى شكل هجين يمزج بين الديمقراطية من حيث المسلسل المفضي للسلطة، والديكتاتورية من حيث الممارسة، في هذا الشكل الذي سماه بالديموكراتورية démocrature . والشعبوية ملازمة للفترات الانتقالية، ولأزمات وجودية تحت تأثير مشاكل اقتصادية واجتماعية، وشيوع شعور الخوف وانتفاء الثقة وعدم الاطمئنان، جراء التغيُّرات العميقة التي يعرفها مجتمع ما.
قد لا يهمنا الاهتمام بالشعبوية، لو كان أثرها محصورا في بلدان الغرب، فالأمر يدخل في نهاية المطاف في دائرة سيادة الدول. قد تستأثر باهتمامنا أكاديميا على أساس أنها زيغ للديمقراطية، وسوء توظيف لميكانزماتها وزعمها احتكار تمثيل الشعب. إلا أن مرد الاهتمام نابع من ميل الشعبوية اليمينية إلى نصب الآخر عدوا، أي أن الشعبوية اليمينية تستمد مسوغها من «خطر» الأجنبي، الذي يتهدد صفاءها العرقي وثقافتها وسيادتها. تقول بصفاء الأجناس وسيادة الإنسان الأبيض وتطهير ثقافتها من الشوائب المتأتية من الهجرة، وتدعو للحمائية الاقتصادية… وهي لذلك وقود للتوتر داخل المجتمعات الغربية وتهديد للعيش المشترك، قد يحمل بذور الحرب الأهلية، وخطر على الأقليات الدينية والعرقية. وقد ترتبط الشعبويات الغربية بتحالفات مع الأنظمة السلطوية، كما في أنظمة بلدان العالم العربي، في توزيع للمهام، تأخذ هذه الأخيرة على عاتقها «العمل القذر» كحاجز للهجرة، أو المناولة في الحرب على الإرهاب، أو حتى شيطنة القوى الحية.
دعوة بايدن للوحدة لم تنصرف لشرخ الماضي القريب، بل للمستقبل وما يتهدد أمريكا من تصدع تغذيه الاتجاهات الشعبوية
يقف روزانفالون عند الجوانب النفسية المؤثرة التي تهيء لبزوغ الشعبوية، ومنها ما يسميه بالمنعطف العاطفي الناجم عن الخوف، مع الإحساس بالتخلي من لدن شرائح عريضة من المجتمع، التي تشعر بأن نخبها تخلت عنها، ما يتولد عنه الذحل الديمقراطي (استعمل كلمة ذحل ترجمة ل Ressentiment وهي الكلمة التي يستعملها أبو حيان التوحيدي في أخلاق الوزيرين عوض كلمة الضغينة) وينضاف إلى ذلك استشراء الشعور بالمؤامرة، مع إسباغ العقلانية عليها rationalisation complotiste . تعطي الشعبوية ظاهرا من العقلانية على ظواهر فعلية، بناء على تفسير غير عقلاني، فهي تقرن البطالة والجريمة إلى أسباب غير حقيقية كالهجرة، أو توعز الحركات الاحتجاجية إلى تحالف إسلامي يساري مفترض. كانت هذه العناصر الناظمة للِحملة الشعوبية قبل أن يصل ترامب سُدة البيت الأبيض، ولا يمكن أن تتوارى بعد رحيله عنها، ويمكنها أن تستفحل مع الأزمة الاقتصادية. واللافت أنها لم تعد مقتصرة على الاتجاهات اليمينية المتطرفة، التي تزعم جهارا بتميز الإنسان الأبيض، بل تغلغلت حتى في أحزاب ديمقراطية، وإلى بنية الدولة، في خطابها وممارستها. فالإسلاموفوبيا وهي شكل من أشكال استعداء الآخر الملازم للشعبوية، لا تقتصر على أحزاب يمينية متطرفة، أو ممارسات هامشية، بل أضحت جزءا من خطاب الدولة وممارساتها. أي أننا دخلنا مرحلة شعبوية الدولة، كما في فرنسا مع ساركوزي، وماكرون، وقبلهما مع سيلفيو برلسكوني في إيطاليا.
الخطران اللذان يتهددان الغرب، من وجهة القوى المؤثرة فيه فكريا وسياسيا، هما خطر خارجي تمثله الصين، وداخلي هم المسلمون داخل هذه المجتمعات. لا يتم التمييز وفق الباحث أولفي روا، وهو من الأصوات الحصيفة في فرنسا، بين الإسلام والاتجاهات الإسلامية والحركات الإسلامية الراديكالية.. هذان الخطران، فعليا أو توهما، هما ما يمدان الشعبوية بمسوغ الوجود. ومن المستبعد تواري الاتجاهات الشعبوية، خاصة في أوروبا، مع السياق الحالي.
بيد أن هناك شكلا آخر للشعبوية هو الشعبوية اليسارية، الذي برز في أوروبا بعد أزمة 2008، كرد فعل ضد زيغ النيوليبرالية، وبلغ السلطة في بعض الدول الأوروبية، كما حزب «سيريزا» في اليونان و»بوديموس» في إسبانيا وأخرى مؤثثة للمشهد السياسي، كما حركة «فرنسا التي لا ترضخ» لجول لوك ميلنشون، وحركة خمسة نجوم في إيطاليا. تعتبر الباحثة البلجيكية شانتال موف هذا الاتجاه المرجع النظري لكل شعبويات اليسار، وتستمد هذه الشعبوية شرعيتها من مساوئ النيوليبرالية التي محت التمايز بين اليمين واليسار، في توافق رخو، ولذلك تنتقد موف تواطؤ أحزاب اليسار مع الخيار النيوليبرالي، وتزعم أن الشعبوية اليسارية هي البديل.. وعلى خلاف الشعبوية اليمينية، التي تنصب الآخر عدوا، فإن العدو في الشعبوية اليسارية هو الأولغارشيات المالية، أو ما يسميه ميلنشون بحائط المال.. ويرى هذا الاتجاه أن شعبوية اليسار من شأنها أن تصحح زيغ شعبوية اليمين، وتعيد الديمقراطية إلى نصابها..
إلا أن شعبوية اليسار ليست بزخم شعبوية اليمين نفسه، ولم تثبت في الحالات التي وصلت فيها إلى السلطة، كما اليونان وإسبانيا، ويظل تأثيرها هامشيا في كل من فرنسا وإيطاليا، أي أن الشعبوية اليمينية هي التي تحدث عن نفسها، وتكتسح الساحة العامة. واللافت أن الشعبوية اليمينية تلتقي والفاشية في الزعم في احتكار تمثيل الشعب، والنزوع إلى القوة وتمجيد القائد، وانتقاد تفسخ المجتمع، وفي بنية التنظيم، وإن اختلفت معها في السرد، لكن الأزمة الاقتصادية العالمية، وما تمخض عنها من شرخ مجتمعي، من شأنها أن تدفع الاتجاهات الشعبوية اليمينية إلى صياغة سرد يكون بروفة للفاشية في حلة جديدة. وهنا مكمن الخطر.
كاتب مغربي
تحالف السلطة مع الفساد يرى من يساندهما في كل مصلح شعبويا هذا في البلاد العربية. أما ترامب فشعبويته من أجل المزيد التشبث بكرسي الحكم كأن له جينات عربية.
الشعبوية الفاشلة ستبقى في الغرب. السؤال الاهم: كيف ستستجيب دول العالم العربي؟. التماشي مع الفشل المتكرر كما حدث مع ترامب ام التنمية المستدامة والمستقلة؟!
تطرق الكاتب و المفكر أوريد لمفهوم الشعبوية في المجتمعات الغربية،و صنفها إلى يمينية و يسارية.. حبذا لو تناول المفهوم في الحقل السياسي المغربي، علما أنه من أكثر المفاهيم استهلاكا في المرحلة الأخيرة خصوصا مع صعود أحزاب ذات زعامات كاريزمائية مثل حزب العدالة والتنمية خصوصا في حقبة ابن كيران، فقد استخدم هذا المفهوم في تراشقات الأحزاب و صارعها السياسي حتى أصبح هذا المفهوم مميعا يستعمل في كل السياقات…
إلى الكاتب حسن أوريد،
ما تدل عليه كلمة “الذحل” في كتاب أبي حيان التوحيدي “أخلاق الوزيرين” شيء، وما تدل عليه كلمة Resentment في الإنكليزية، أو مقابلها Ressentiment في الفرنسية، شيء آخر !!؟
العقول الإختزالية التبسيطة التي لا ترى إلا الأسود و الأبيض يسهل استيعابها و تشكيلها من طرف الشعبويين. و ما أكثرها في العالم الفقير.
و العقول الإستقرائية و الإستدلالية التي صارت في تناقص في العالم الغني يصعب تجييشها إلا من الوصوليين.
إذن المستقبل لا يبشر بالخير . إلا إذا أخذ الفاعلون بهذا العالم الإنسان أولا و أخيرا كقيمة أولى. و هو مطلب يبدو لي صعب التحقق في الثقافة السائدة على مستوى العالم
هيهات وهيهات..ولو أنهم بحثوا عن الحقيقة بإخلاص ونزاهة، لحررتهم الحقيقة.. وبالتالي يصبحون من الفائزين!! ???