(إلى كريم شعلان)
تسعينيات القرن الماضي حيث الحصار، وهو – لمن لم يعشه – جحيم نيرانه الجوع. في السنة الثالثة منه، كتبت الدولة على من هم في مثل سني، من الفاشلين دراسياً، العسكرية. قلت لأبي، أنا العنيد كبغل: لن أخدم يوماً واحداً في جيش صدام.
كان عليّ مواجهة شيئين لا سبيل إلى تجنبهما، هما العمل لتحصيل الرزق، ومفارز الانضباط العسكري. وثمة شيء آخر، أشد إرعاباً: من يرتدون الزي المدني منهم، فهم موجودون، في كُلِّ زقاق وشارع ومحلة ودربونة وعكد ورصيف وبيتونة وفكرة وخاطرة، أي أنهم – باختصار شديد- كالجوع في بطن البلاد.
قسوة تلك البلاد ما كانت ترحم.. قسوة وفرت لي مهارتين جليلتين، هما: كتابة الشعر من جهة، ومهارة النجاة من عقوبة الفرار من الجيش -أي صلم الإذن – من جهة ثانية، أقصد مهارة تجنب الزنابير كما كنا ندعوهم، أقصد “الرجال العقارب” كما ورد في أساطير بابل، أقصد رجال المفارز العسكرية، ومن ضمنهم، أخطرهم ذوو الزي المدني.
كان الشعر بمثابة باب طوارئ خلفي كلما ألحت فكرة الانتحار، وهي فكرة، وليست بفكرة، فقد كانت تسبقها، وتمهد لها حالاتٌ من التشنج العصابي، المصحوب بنوبات بكاء، هو، في حقيقته، عويل عراقي قديم. كنت أشبه بجاموسة أهوار، تمتلك عقلاً بشرياً كاملاً، في ساعة الذبح؛ هكذا كان عويلي، في كل مرة تتسلط فيها عليّ فكرة الانتحار.
كان الشعر، وما زال، بالنسبة لي، باب طوارئ خلفي.
بيد أني أثبت – أنا الفاشل في كل شيء، والنادم على كلِّ ما فعلت، والهارب- للشعر- من كلّ شيء – مهارة، قل نظيرها، في مراوغة الزنابير؛ فقد نبتت لي- حتى- في قفاي عينان، مكنتاني من تجنب مواضع الخطر في كل شارع وزقاق. كنت، في كل جولة لي أثناء تحصيلي للرزق، حمالاً في شورجة جميلة، أو منادياً، في أفضل حالاتي، على البضاعة، فيها، عارفاً برائحة الرجال العقارب، رغم تنكرهم في أزياء مدنية! أعرفهم من شواربهم، ثمانية الشكل، من السياط السود في عيونهم. كنت أعرفهم من النظر إليهم – حتى – بعيني قفاي! تجنبت بمهارة شبحية أحسد نفسي عليها السؤال التليد المرعب:” هويتك أخي؟”. كنت أحرص على الذهاب، رغم رداءة الحال، إلى مقهى حسن عجمي وكافتيريا حوار وشارع المتنبي، رغم كوني جائعاً، غاضباً، ساخراُ، معرضاً للاعتقال أو للإهانة، كما، أنا، اليومَ.
في كل مرة كنت أذهب فيها إلى أي مكان من أماكن وجود “النخبة”، كنت أرى زنابير، من نوع آخر، هم زنابير الثقافة؛ متأنقين، دناغيز، عموديين كأعمدة كهرباء عاطلة، قابضين من هذا، زاحفين إلى ذاك. كانوا ينشرون في صحف النظام مدائحهم التليدة. يقبضون عنها مالاً، ظلوا يقبضونه، إلى يومنا هذا، بعد مجيء أمراء الطوائف في 2003. اتسعت تجارتهم، حتى بلغت عكاظ والرياض. هم يقبضون، وأنا أنادي في شورجة جميلة: بطيخ… دهن… بطيخ… صابون…
شاعر عراقي