الناصرة-“القدس العربي”:تتعرّض مدينة القدس منذ احتلالها 1967 لعملية تهويد وأسرلة ومحاولات منهجية لتزوير هويتها وتغيير روحها وهويتها بالهدم والاستيطان والبناء الاعتباطي وغيرها من الأساليب الماكرة. يتواصل ذلك بوتيرة متصاعدة وسط تحذيرات من أن يؤدي تهافت دول عربية على التطبيع مع الاحتلال للمزيد من تضييق الخناق على زهرة المدائن وحبس الأكسجين عنها وقطع أوصالها عبر انتزاعها من حضنها الطبيعي، الضفة الغربية، خاصة أن ما يعلن من مشاريع عربية لدعمها يبقى في معظم الأحيان حبرا على ورق. وتشارك في عملية الطمس والتزوير سلطة الآثار الإسرائيلية التي تستبدل المعايير العلمية بأخرى سياسية كما يؤكد باحثون إسرائيليون أيضا أبرزهم عالم الآثار الدكتور يونثان مزراحي الذي يصدر دراسات بديلة لـ “الأبحاث الأثرية الإسرائيلية الملوثة بالاعتبارات السياسية”. ودأبت حكومات إسرائيل المُتعاقبة على وضع مجموعة كبيرة من الخطط والبرامج وإصدار العديد من القرارات وتنفيذها ضمن استراتيجية استعمارية واضحة لتهويد المدينة المُقدّسة وتغيير طابعها العربي وذلك من خلال إلباسها ثوباً يهودياً-صهيونياً في إطار عملية “المحو والإنشاء” التي تعرّضت وما تزال تتعرّض لها المدينة وغيرها من الأماكن والمدن الفلسطينية الأخرى. وقد اشتدّت وتيرة المساعي الإسرائيلية هذه خلال العقود الأخيرة التي شهدت هجمة استيطانية تهويدية مُكثّفة من خلال “الخطط الخمسية” المُتتالية والتي تُخصّص وتُرصد لها موازنات ضخمة تحت مُسمّيات مُضلّلة تُخفي النوايا الحقيقة الكامنة والأهداف المرجوة منها.
أكبر مدن فلسطين
يؤكد الباحث الخبير في القدس خليل توفكجي، أن القُدْس هي أكبر مدينة في فلسطين التاريخية من حيث المساحة وعدد السكان وأكثرها أهمية دينية، ومركزية الموقع الجغرافي للقدس جعلت منها مركزا اقتصاديا وتجاريا هاما، بالإضافة إلى أهميتها الكبيرة على المستوى الروحي والتاريخي والثقافي والسياسي. منوها أن الشطر الشرقي من القدس هو الأكثر عرضة للتزوير والتهويد اليوم ويشمل جميع الأراضي التي كانت تحت الحكم الأردني بعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين عام 1948م، وحتى الاحتلال الإسرائيلي للمدينة عام 1967م. وتقع ضمنها البلدة القديمة التي تحوي على أقدس الأماكن للمسلمين والمسيحيين.
درة تاج العمارة الفلسطينية
من المعلوم أن قوات الاحتلال سيطرت على الشطر الغربي من المدينة عام 1948م، وهو ما يعادل 80 في المئة من مساحة القدس، وكان يضم أحياء فلسطينية كثيرة تم تدمير بعضها، وما تبقى منها تم إشغاله بالمستوطنين ودوائر الاحتلال المختلفة، ومن أشهرها الطالبية والقطمون والبقعة والحي اليوناني والحي الألماني وفي كافتها أقيمت خلال فترة الانتداب البريطاني أجمل البيوت أو القصور التي تعتبر درة تاج العمارة الفلسطينية حتى اليوم. وتعرضت هذه البيوت العملاقة الأنيقة لعمليات تزوير بمحو كل ما يشي لهويتها العربية كلوحات رخامية مثبتة في مداخلها ولم تسلم حتى مساجدها المستخدمة لكل شيء عدا للصلاة كما يؤكد التوفكجي.
الشطر الشرقي
عند احتلال الشطر الشرقي من المدينة في العام 1967 بادر وزير الأمن في حكومة الاحتلال موشيه ديان إلى الإيعاز للمهندسين والمخططين للعمل على إيجاد واقع جديد بالقدس لصالح اليهود. وفي غضون أيام قليلة، هُدمت حارة المغاربة بكاملها في القدس القديمة التي سكنها بضعة آلاف من الفلسطينيين والمغاربة. وحسب توفكجي الذي يعتبر الخبير الأول في الخرائط والشؤون الخاصة بالقدس، فقد تم طرد ما يقارب ألف مواطن عربي من المنازل، وأنشئت ساحة حائط البراق، وصودرت مساحة 17.700 دونم من الأراضي طبقاً للسياسة الإسرائيلية الهادفة للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقل عدد ممكن من السكان العرب. كانت مساحة القدس العربية عشية الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 تبلغ حوالي 6.5 كم مربع بحيث تصل شمالا إلى جبل المشارف، وجنوبا حي الثوري، وشرقا حدود بلدة بو ديس، وغربا خط الهدنة. وبعد عام 1967 وسع الاحتلال الحدود البلدية في شرقي القدس لتصل إلى 70 كم مربع انتزعت كلها من مساحة الضفة الغربية بحيث ضمت كل المنطقة الواقعة إلى الشمال حتى حدود بلدية البيرة بعد استثناء الرام وضاحية البريد وبير نبالا.
العاصمة الأبدية
وتشارك في الهجمة الاستيطانية الكبيرة عدة مؤسسات حكومية في إسرائيل، إلى جانب اعتداءات استيطانية تنفذها جماعات متطرفة، بهدف تهويد المدينة، التي يزعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنها ستكون “العاصمة الأبدية والموحدة” لإسرائيل، وأن حكومته لن تنحسب منها رغم مخالفة هذا القرار الواضحة لقرارات الشرعية الدولية. وتأكيدا على هذه السياسات الإسرائيلية التهويدية كان نتنياهو قد كتب في أيار/مايو الماضي تغريدة على حسابه في تويتر قال فيها إنه أصدر تعليماته ببلورة خطة لتعزيز مكانة القدس لدى اليهود بتكلفة تصل إلى 80 مليون دولار. وفي الواقع تصاعدت وتيرة الطمس والتزوير والتهويد منذ اعتلى نتنياهو سدة الحكم في 1996 وحتى الآن تم بناء 34 مستعمرة إسرائيلية شرقي القدس منذ احتلالها عام 1967 ومن أبرزها “التلة الفرنسية” و”معلوت دفنا” و”بيسغات زئيف” و”جففعات همتوس” و”رامات أشكول” وغيرها. وعام 2005 بلغ سكان هذه المستوطنات 218 ألف نسمة. وتشكل هذه المستعمرات حزامين حول القدس: الأول الحزام الداخلي في داخل القدس الشرقية، وعدد مستعمراته 16 والثاني الحزام الخارجي خارج حدود القدس الشرقية وعدد مستعمراته 18 وتحتل المستعمرات ما مساحته 38 كم مربع. وطبقا لدراسة أعدها المركز الفلسطيني للشؤون الإسرائيلية “مدار” فقد تم إنشاء 24 موقعا استعماريا عشوائيا خلال الفترة من 1996 حتى2015. ويبلغ طول الطرق الالتفافية التي أقيمت في داخل وحول القدس لربط هذا المستعمرات ببعضها حوالي 112 كم. ويتسبب هذا الوضع بعزل المدينة عن محيطها الفلسطيني وقطع الضفة الغربية إلى نصفين. وتابعت هذه الدراسة “لأجل تكثيف عمليات الاستيطان في القدس، يمكن أن تتحول المناطق الخضراء والمفتوحة بين ليلة وضحاها إلى مناطق بناء (مثال على ذلك جبل أبو غنيم/ مستعمرة حار حوماه وشعفاط/مستعمرة ريخيس شعفاط). وتشير الدراسة أنه في بعض الأماكن تم الإعلان عن تحويل مناطق مكتظة بالبناء الفلسطيني، مثل حي البستان في سلوان، إلى مناطق مفتوحة. وأدت هذه السياسة العنصرية على مستوى المدينة إلى وجود حوالي 22000 مسكن غير مرخص، من بينها تسعة آلاف مهددة بالهدم.
الحوض المقدس
ويؤكد الباحث ابن مدينة القدس زياد الحموري لـ”القدس العربي” على أن مدينته بما تحمله من تاريخ مجيد وتراث فريد عبر العصور تتعرض لعدوان حضاري شرس يستهدف تهويدها بالكامل وطمس معالمها العربية ويحصل هذا على مرأى العالم ومسمعه. منوها أن مخططات الاحتلال الخبيثة تعتمد سلة أهداف على مختلف الصعد الثقافيّة والسياسيّة والديموغرافيّة والدينيّة، وأبرزها: محو الهويّة العربية والإسلاميّة لمدينة القدس واستبدالها بهويّة يهوديّة من الناحيتين التاريخيّة والدينيّة. وترحيل عدد كبير من المقدسيّين إلى مناطق أبعد عن المسجد الأقصى والبلدة القديمة أو حتى خارج القدس. كذلك عزل المسجد الأقصى عن الأحياء العربية الفلسطينية، مما يحرم المسجد من أحد أهمّ خطوط دفاعه، ويُسهّل على المحتلّ الاعتداء عليه كيف ومتى أراد. مشيرا إلى أن أهم أجزاء هذا المشروع التهويدي هو حي سلوان والذي اغتصب الاحتلال فيه حتى الآن ما مجموعه 60 شقة سكنية، ويسعى لإزالة حي البستان وهو جزء من سلوان من الوجود وتحويله لحديقة توراتية. ويخلص للقول “مدينة القدس تتعرض اليوم لتصعيد عمليات احتلال التاريخ بعد الجغرافيا وما لم توضع على قمة أولويات الأمة العربية والإسلامية، فإنها ماضية الى مستقبل شديد القتامة. وضمن مخططات تغيير الملامح التاريخية التقليدية للقدس شرع الاحتلال في بناء كنيس عملاق مطل على الحرم علاوة مخططات أخرى نحو تغيير كبير في مشهدية هذه المدينة العربية الإسلامية منها مشروع تيلفريك يربط شطريها الغربي والشرقي. وعلاوة على بناء الأنفاق أسفل الحرم وتهويد باطنه استنادا لأساطير توراتية”. وما زالت تعمل في القدس 27 جمعية استيطانية معظمها يهدف لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى وقبة الصخرة.
تحت غطاء “التطوير”
وفي سياق الهجمة الإسرائيلية المسعورة يقول الباحث عبد القادر بدوي أن الاحتلال يسعى ليل نهار كي لا تكون القدس خاضعة للتفاوض ضمن أي تسوية مُستقبلية مع الفلسطينيين، لا سيّما بعد الاعتراف الأمريكي بها كعاصمة لإسرائيل وما تلاها من صفقات ومُخطّطات (صفقة القرن، وخطّة الضم وما شابه) وأيضاً من إجراءات على أرض الواقع. ويشير للخطة الحكومية الإسرائيلية بعنوان: “القرار 3790: تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية” والصادرة بتاريخ 13 أيار/مايو 2018 عن الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو كأحد الوسائل المُتّبعة لتهويد المدينة ومحو عروبتها عبر مُمارسات وسياسات تُعرّف إسرائيلياً على أنها “قانونية” هدفها تطوير المدينة وتحسين الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية لسكّانها العرب، وهي تسميات مُضلّلة تُستخدم كغطاء لتمرير سياسة التهويد والتي تسعى من ضمن أمور أخرى كثيرة لاقتلاع السكّان العرب الفلسطينيين من المدينة.
محذرا من وحشية السياسات والمُمارسات الإسرائيلية المُستمرّة والمُتصاعدة الساعية لمحو طابع المدينة العربي و”عَبْرنتها” وكذلك تحقيق الدمج اللامتكافئ لسكان المدينة العرب في الاقتصاد والعمل الإسرائيليين عبر إصدار قوانين وتشريعات وقرارات تُخصّص لها موازنات ضخمة؛ وتظهر للعلن تحت مُسمّيات مُضلّلة كـ “التطوير” و”تقليص الفجوات” و”تعزيز الاندماج” إلخ.
تخطيط العقارات وتسجيلها
وفي رأي عبد القادر بدوي يظهر التوجّه الإسرائيلي في هذا الجانب بشكل واضح، فالهدف هو سرقة أراضي المواطنين الفلسطينيين في القدس الشرقية والتضييق عليهم كسياسة مُتبعة منذ فترة طويلة لإفراغ المدينة منهم؛ حيث يقترح القرار تسجيل وتنظيم وتسوية 100في المئة من أراضي القدس الشرقية خلال فترة الخطة وفق قانون التسوية العقارية الصادر في العام 1969 وتلك القوانين التي تنطبق على شرق المدينة (وربما الإشارة هنا إلى بعض الأوامر العسكرية وقرارات المحكمة العليا بشأن تسوية الأراضي على غرار ما هو معمول به في الضفة الغربية) ولتحقيق هذا الغرض تُخصّص الخطة مبلغ 50 مليون دولار موزعة بالتساوي على الأعوام 2018- 2023. منوها إن الموازنات الضخمة هذه تكشف عن الاهتمام الكبير الذي توليه الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة للمدينة باعتبارها كُلاً مُتكاملاً كـ “عاصمة موحّدة لإسرائيل” دون اعتبار القدس الشرقية منطقة فلسطينية أو ربّما ستكون كذلك في سياق أي تسوية سياسية مُستقبلية. وهذا في رأيه يُفسّر في سياق الرغبة الإسرائيلية الساعية لتدمير أي حل أو تسوية مُستقبلية من شأنها أن تضمن للفلسطينيين سيادة على القدس الشرقية كعاصمة لدولتهم المنشودة.
التهويد بالهدم
ويشير تقرير لمؤسسة “المقدسي لتنمية المجتمع” (أهلية) إلى أن إسرائيل هدمت منذ 1967 وحتى نهاية 2015 أكثر من ألفي منشأة سكنية وغير سكنية. وطال تهويد المدينة المنشآت، إذ يهدم الجيش الإسرائيلي مئات المباني في القدس سنويا تشتمل على مساكن ومنشآت تجارية وصناعية وزراعية وغيرها.
مقبرة اليوسفية
وضمن عمليات السطو المسلح على التاريخ والهوية والوعي تتعرض اليوم المقبرة اليوسفية للمزيد من التجريف والتخريب. ويوضح رئيس لجنة رعاية المقابر الإسلامية في القدس، مصطفى أبو زهرة، إنّ المقبرة تحوي “ضريح الشهيد” إضافة إلى العديد من القبور القديمة والحديثة، لافتًا إلى أن مساحة المقبرة تبلغ نحو أربعة دونمات، وهي الامتداد الشمالي لمقبرة اليوسفية (مساحتها نحو 25 دونمًا) والتي تعرّضت للعديد من انتهاكات أذرع الاحتلال في الآونة الأخيرة. وأشار أبو زهرة إلى أنَّ هذا الاعتداء الذي تكرر قبل سنوات، تهدف من خلاله سلطات الاحتلال إلى إقامة حدائق توراتية، مؤكدًا أن مقبرة مأمن الله تعرضت هي الأخرى لما هو مشابه حيث أقيم متحف التسامح على جماجم المسلمين. وتقع مقبرة اليوسفية شمال مقبرة باب الرحمة، وبمحاذاة سور القدس الشرقي، وتتعرض منذ سنوات إلى هجمة إسرائيلية وحفريات، وصلت إلى مداميك أثرية قريبة من عتبة باب الأسباط.