يعود ملف المفاوضات حول السلام في أوكرانيا إلى الطاولة مجددا، وذلك على الرغم من الإخفاقات التي يُمنى بها الجيش الأوكراني في الميدان. نجاحات عسكرية يحققها الجيش الروسي ولم تَرُق للدول الغربية، التي تُظهر حتى الآن المزيد من التعنت والإصرار على رفد كييف بالدعم العسكري والأسلحة، وكذلك منعها من خوض مفاوضات جدية مع موسكو، وإنما مفاوضات من طرف واحد ذات وجهة نظر معروفة سلفا.
أوكرانيا تتهم موسكو برفض المفاوضات، وربما لهذا الأمر أطل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام، وأعلن أن بلاده مستعدة لمواصلة المفاوضات، لكن على أساس الاتفاقات التي تم التوصل إليها مسبقا، ملمحا من خلال ذلك إلى أن روسيا لن ترضى بالتراجع عن أي متر استطاعت أن تسترده من أوكرانيا.
بوتين قال كذلك إن روسيا تؤيد المفاوضات بشأن السلام في أوكرانيا، ولم تمنع أي أحد من التوسط بها، مشددا على أن أي مفاوضات سلام يجب أن تُستأنف على أساس «المنطق السليم» قاصدا بذلك أن أي مفاوضات يجب أن تحصل لا بد أن تكون مع رئيس شرعي في أوكرانيا وليس مع فلاديمير زيلينسكي ذي الولاية المنتهية، بوصفه «مغتصبا للسلطة» بدعم من الغرب.
وانتهت ولاية زيلينسكي في 20 أيار (مايو) من الشهر الجاري، كما أُلغيت الانتخابات الرئاسية المقررة هذا العام، بسبب الأحكام العرفية والتعبئة العامة على حد وصف كييف. وعقب إلغاء الانتخابات قال زيلينسكي إن «الانتخابات الآن في غير وقتها».
وعلى الرغم من انفتاح روسيا على الحوار، لا تبدو أوكرانيا ولا حتى الدول الغربية متحمسة من أجل خوضه مع موسكو، وهو ما كان يحتم في كل مرة، فشل أي عملية تفاوض بمعزل عن عدد أو نوعية الدول المشاركة، وهذا تحديدا ما كان زيلينسكي وحلفاؤه يرفضون الاعتراف به، فيحاولون في كل مرة التعويض عن حضور روسيا، بدعوة أكبر عدد من الدول الداعمة لمنطقهم، في مقابل إقصاء كل من يعتبرونهم الخصوم، تماما مثلما يحصل اليوم في المفاوضات المرتقبة في سويسرا التي ستفشل كالعادة.
لكن الجديد هذه المرة، هو دعوة زيلينسكي الرئيس الأمريكي جو بايدن والصيني شي جينبينغ إلى حضور القمة المقررة منتصف شهر حزيران (يونيو) المقبل في سويسرا. زيلينسكي توسل الرئيسين الأمريكي والصيني بالقول: «رجاء ادعما قمة السلام بقيادتكما الشخصية وحضوركما» معتبرا أن «جهود الغالبية في العالم هي الضمان للإيفاء بكل الالتزامات».
إلا أن هذا الكلام لا يعكس حقيقة سلوك زيلينسكي، الذي أغضب «صديقته» أنقرة مؤخرا، وذلك بعد سلسلة تصريحات أطلقها منذ نيسان (أبريل) الفائت، وتوقفت عندها تركيا كثيرا بعد أن لاقت استياء بالغا لدى الدوائر الخاصة والعامة في تركيا.
لم يعد خافيا على أحد أن مساعدة تركيا لأوكرانيا على مدى السنوات الفائتة لم تأت إلا بنتائج عكسية
تلك التصريحات شككت في قدرة أنقرة على لعب دور «الوسيط» في تنظيم الاتصالات مع الجانب الروسي، وذلك في إشارة إلى ما اعتبره زيلينسكي «نتيجة اعتماد أنقرة الزائد على موسكو». تلك الفكرة يروّج لها زيلينسكي من أجل تبني «صيغة سلام وحيدة» تكون مقبولة من كييف خلال قمة سويسرا المنتظرة.
بمعنى آخر، يحاول زيلينسكي تشجيع كل من يشاطره آراءه فقط على حضور تلك القمة، بينما يسعى إلى إقصاء كل من يحاول مقاربة الأزمة الأوكرانية بالواقعية والمنطق، وفي أضعف الإيمان يسعى إلى دفع معارضيه إلى الغضب من أجل عدم حضور القمة.
هذا الموقف الأوكراني، الذي يقلل من سلطة أنقرة، أثار ردود فعل سلبية في أوساط الخبراء الأتراك، وخصوصا أولئك المقربين من الحكومة، حيث رد الباحث السياسي المعروف ورئيس تحرير صحيفة ملييت أوزاي شندير، على زيلينسكي بشكل قاسٍ وذلك عبر منشور، اتهمه فيه بـ«الخضوع الأعمى» للتوجهات الغربية. كما شكك شندير في إيمان الأوكرانيين المزيّف بنجاح «قمة السلام» السويسرية، داعيا جميع الأوكرانيين إلى التركيز على كل ما هو عملي وحقيقي.
قال شندير: «أتساءل من هي الدول الـ100 التي ينتظرها الرئيس الأوكراني في سويسرا؟» معتبرا أن «تنظيم مؤتمر سلام مع دول لا علاقة لها بالقضية (خصوصا روسيا) لن يؤدي إلا إلى جمع الأموال… وهذا طبعا لن يؤدي إلى أي نتائج تُذكر».
كما سأل شندير موجها كلامه للرئاسة الأوكرانية: «لماذا ينبغي على روسيا أن تشارك في اجتماعا وفقَ شروط وضعها زيلينسكي؟ هل ستجلس موسكو على الطاولة نفسها مع باريس التي تتحدث عن إرسال قوات عسكرية مقاتلة إلى أوكرانيا؟» خاتما حديثه بالتحذير من مغبة خسارة صداقة أنقرة بالقول: «من الواضح أن رئيس أوكرانيا في حاجة إلى أن يشعر بما يمكن أن يحدث له من دون تركيا».
إذن، لم يعد خافيا على أحد أن مساعدة أنقرة لأوكرانيا على مدى السنوات الفائتة لم تأت إلا بنتائج عكسية. إذ يبدو واضحا أن كييف أصبحت دولة فاقدة لذاتها، وتحولت إلى «دمية» بين أيدي الولايات المتحدة. كما أن تصرفات واشنطن باتت موجهة بالتساوي ضد روسيا وكذلك ضد تركيا، التي تعتزم واشنطن استخدامها من أجل زعزعة استقرار النظام الأمني في أوروبا والشرق الأوسط فقط، وليس الاعتماد عليها كحليف جدي.
فبرغم الدعم السياسي، وغيره من المساعدات التي تتلقاها كييف من أنقرة، تفضل اتباع السياسة الغربية حصرا، وخصوصا تلك الأمريكية وذلك على حساب صورة أنقرة ومصالحها الدولية، ومن دون أن تحصل على أي مكسب سياسي حتى الآن من عملية دعم كييف. بل على العكس، فإن كييف تتطفل على تركيا وتتخذ اليوم موقفا صريحا ضدها!
ولعل هذا ما دفع بدوائر القرار التركية مؤخرا، إلى حد استخلاص العِبر والخروج بنتائج تفيد بأن زيلينسكي ليس سياسيا كفؤا ولا ينفع معه أي حوار، خصوصا في ظل تصريحاته المتهورة وغير المدروسة التي تهدد أنقرة بخسارة هيبتها وسمعتها في حال استمرت بالتواصل أو التنسيق معه… فهل يقع الطلاق بينهما قريبا؟ ربما قمة سويسرا سوف تجيب.
كاتب لبناني