زينب والاسد

حجم الخط
0

– شايل عتلتك الكبيرة دي وحايم بيها في شندي مالك ..امشي غطي قدحك في ود سعد هناك ..يا أسد بيشة المكربد قمزاتو مطابقات!!
قفز كالملسوع واجترحه غضب عارم لهذه الوخزة المؤلمة من غريمه وصديقه اللدود ود الجعلي في انداية بت مهجوم في هوامش المدينة..
بنت عمه المدللة زينب التي اسماها والدها على جدتها المشهورة الكنداكة وشاعرة القبيلة’زينوبة’ التي كانت تقاتل الأتراك مع الرجال وظلت تجلد معهم لأنها لا تدفع العتب ويضعون لها القطة في سروالها أيضا،كما يفعلون برجال في ذلك الزمن الأغبر من حكم الباش بوذوق الفاشي ،لأنها ولدت وحيدة وبنتا لم يسود وجه أبيها أو يضحى كظيم بل رباها كما يربى الأولاد تعلمت السباحة والمصارعة ولعب السيجة والطاب وكانت ترافق أبيها في كل جولاته ومجالسه والى المحاكم وتعلمت في الكتاتيب مع الرجال..وظلت تذهب إلى مزارع أبيها وتقود المحراث وتنزل سوق المحاصيل في شندي وتبذ الكثيرين شجاعة ورجاحة عقل ومع كل ذلك كانت رائعة الجمال تستحي الشمس نفسها من طلعتها البهية..ويجلها الرجال وتغار منها النساء، اللائي لا يشكلن جزء من عالمها إطلاقا..صديقها الوحيد والغريب هو ‘ود نفوس’ ومحطة الإنذار المبكر الذي ينقل لها أخبار وأسرار القرية، كان على عكسها تماماً،يخالط النساء ويقوم بتمشيطهن ويحب كل ما تحبه النساء في الرجال، لذلك لم يشكل خطرا عليها منذ طفولتهما الباكرة وهو الذي روج قصتها المخيفة التي أثارت توجس الكثيرين وأبعدتهم عنها، انه شاهدها تتبول واقفة كما يفعل الرجال عن جروف النيل في ليلة مقمرة ولكنه لم يجذم بأنه رأى شيئا آخر، ظلت هذه الأفكار والهواجس المضطربة تدور في ذهنه وهو في طريقه إلى القرية، عبر النيل إلى المتمة وركب باص القرية المتهالك..لقد احكم خطته تماما بعد أن فشل الآخرين عبر الزمن معها…
*****
ذهب إلى عمه عباس في المجلس وبقايا الخمر تلعب في رأسه ووقف على رؤوس الأشهاد..
– يا عمي اسمع.. الليلة بتك المطلعا لينا في راسنا دي تعقد لي عليها قدام الناس ديل في مكانك ده وخلي الباقي علي!!
بهت جل من في المجلس، حدق عباس في ابن أخيه الأثير احمد الملقب بالأسد، كان يحبه أيضا حباً جماً..ولكن تعلقه بابنته وتدليله المفرط لها جعله يتعامي عن كل الأعراف والتقاليد في المنطقة..وترك لها أمر الزواج في يدها وكانت ترفض الجميع بل تستهزئ بهم أحيانا، موظفين في البنادر، أرباب مال،رجال دين،ضباط في الجيش.. ولكن هذه المرة بلغ السيل الذبا،تداولوا الأمر قليلا وتم إجراء العقد في المجلس وارتفعت زغاريد النساء الشامتة في القرية وخرج احمد مندفعا لتنفيذ بقية الخطة حتى لا يفقدها إلى الأبد…
عليه أن يصل ود نفوس الخبيث قبل أن يسبقه وينزل لها في المزرعة ويخبرها، دهمه في بيته الذي يقبع فيه وحيدا لمآربه الأخر ..على غرار المثل السوداني ‘السترة والفضيحة متباريات’.. عند هوامش البلدة ووجده يستعد في لبس جلبابه الفضفاض، انقض عليه بغتة واحتضنه وسقط معه على الأرض، كانت الروائح الذكية للعطور النسائية تفوح من المنزل والجسد اللدن وتكاد تذهب بعقل ‘الأسد’..
قام بتكبيل ود نفوس بعمامته وربطه في مرق الغرفة، ونهض بعد أن بصق عليه…
– الليلة ما عندي ليك وكت ..كنت جيهتك كويس يا ود نفوس وكرهتك الشغلانة دي للأبد..!!
شهق ود نفوس رعبا وردد بصوته الاخن المثير للغرائز
– فكني يا زول انا عملت ليك شنو؟؟!!
– تشمتوا فيني ود الجعلي وناس شندي كلهم.. انا ‘الأسد’..بتين شفتها تبول واقفة يا ود الكلب..؟!
أيقن احمد أن خطته تسير على ما يرام، بعد تعطيل جهاز الإنذار المبكر، فقط عليه أن يهاجمها على حين غرة، انحدر نحو المزارع في خطى واسعة وجسده الضخم الفارع ينتفض غضبا وشهوة أيضا، من جراء العطور التي ملأت خياشيمه بعد معركته الصغيرة مع ود نفوس..والان عليه الاستعداد لمعركته الكبرى، انداح بين سنابل القمح، يتحسس صوتها وغناءها الشجي وتجرد من كل ملابسه وترك السروال للمرحلة الأخيرة..وانقض عليها كما يفعل الأسد بالفريسة وقضى أمراً كان مفعولا وافلتها مهيضة الجناح واستلقى إلى جانبها يحدق في السماء، مثخن الجراح والدماء تغطي وجهه وجسده وذلك النتوء بين رجليه في طريقه إلى الاضمحلال بعد أن افرغ كل حممه الثائرة وانتهت معركة الكرامة… صرخ بأعلى صوته الجهوري، حتى يسمعه الإنس والجان من ود سعد إلى مدينة شندي…
– انا ‘الأسد’ انا الشافو ابو..الليلة يا ود الجعلي ما تلفاني بكرة في شندي!!..
لم يأبه لها وهي تنهض في انكسار وتتلفح ثوبها وتعدو نحو النيل وتلقي نفسها فيه وهو يعرف تماما أنها سباحة ماهرة، أنزلت بهم الهزائم النكراء في اختبار عبور النيل في الطفولة البعيدة، ستعبر النيل لا محالة.. وستنجب ابنه في مكان ما،لقد تزوجها على سنة الله ورسوله..وقضى وطره منها…وانزل الهزيمة الساحقة بود الجعلي في انداية بت مهجوم،لابد أن أهل ود سعد سينقلون الخبر إلى البنادر…وستكون لود نفوس قصة جديدة أخرى يرويها غير قصته المختلقة تلك تماما، عندما يعود ويحل وثاقه ويطلق سراحه غدا… وأغمض عينيه وابتسامة عريضة تغمر وجهه الدامي.. وبقي على حالته تلك من الزهو والانتشاء، حتى تنفس الصباح وتعالى صياح الديوك في القرية…
*****
– المحطة الشينة دي شنو يا ود الحمداب الما فيها نفاخ نار واحد ؟؟!!
– دي محطة ام حسن
– يا اخ دي محطة والله الحمار الضكر ما يقعد فيها !!
– قالوا عندها قصة غريبة والله !
– قصتا شنو؟!
– يااااخ الجوع والعطش كتلنا والقريفة كمان..ما في حتى سجاير يبيعو في المحطة دي..!!
ادخل ود الحمداب يده في جيبه واخرج حقة الصعوت ومدها لرفيقه..
– هااااك يا ود كرقس املا خشمك تمباك..نسأل الله السلامة وقول لي قصتا لحدي ما ربك رب العزة يوصلنا شندي بلد الكرم والجود..نملا بطنا المكركبة دي…
دار هذا الحديث الساخر، بين اثنين من أبناء الرباطاب، العابرين على سطوح قطار الشمال،قطار كريمة في طريقهما إلى الخرطوم، عبر رحلة طويلة مضنية بقطار متهالك ظل يطوي المسافات عبر قرن من الزمان ،منذ حملة كتنشر العسكرية لفتح الخرطوم سنة 1898..

كاتب من السودان*

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية