لم يستخدم نقاد العرب ولا بلاغيوهم مصطلح «الصورة» وإن ألموا به في كلامهم على الاستعارة والتشبيه والكناية. وهذه الأنظمة البلاغية التي يغفلها أكثر نقادنا المعاصرين عن قصد، في قراءة القصيدة الجديدة، لها نظام تستقل به، وقانون خاص ينتظمها في المدونة القديمة؛ وإن كنت من الذين يفضلون معالجتها في علاقتها بالصورة عامة والرمز إجمالا، وبالاستعارة المكنية تخصيصا؛ إذ يظل بالإمكان الاحتفاظ بهذا المصطلح. على أن ما يعنيني في هذا المقال هو سؤال القراءة في علاقته بالإدراك وبالتـجربة الجمالية معا. والمسوغ له عندنا نحن المعاصرين عامة أكنا من أهل الاختصاص أم من الجمهور «المستمع» العادي، عنصران في الشعر على نحو ما استتب حده قديما هما المعنى والوزن؛ ولا يزال أكثرنا يأخذ به وإن «تقنع» بقناع المعاصرة والحداثة، أو بلبوسهما اصطلاحا ومنهجا.
والأول تمثــلي، فالمعنى في الصورة يحسن أن يكون قابلا للفهم والإدراك. وهذا ما يفسر قديما استجادتهم للشعر «المطبوع» ومثاله البحتري والمتنبي، وحديثا نزار قباني ومن نحا منحاه. وهذا لا يتسنى إلا إذا جرت المسموعات من الأسماع مجرى المرئيات من البصر، تخيلا وتخييلا، بعبارة حازم القرطاجني الذي بنى نظريته في البلاغة على شعر المتنبي أكثر من غيره؛ وهو خلاصة الشعر العربي في طوريه الكبيرين الجاهلي والمحدث.
أما الثــاني فهو غير تمثــلي لأن الوزن في ذاته تجريدي أو هو يند عن الإدراك الصوري شأنه شأن الإيقاع. والخلط بينهما قديم جدا، سواء في نظرية الشعر عند اليونانيين أو عند العرب. أما إذا تناولناه في علاقته بالمعنى فلا نماري في أنه «تدلال» باصطلاحنا في تونس أو»دلائلية» باصطلاح المغاربة؛ أي أنه ينشئ المعنى أكان الكلام مكتوبا أم ملفوظا، ذلك أن اللفظة «معقولة» أي هي تدرك بالعقل لا بالحواس؛ على ضرورة تنسيب هذا الحكم. والوزن إنما ينظم وحدات المعنى من كلمات ومجموع كلمات، في أنساق أو متواليات توافـقـية تتواصل في ما بينها. ولا يذهبن في الظن أنه مصنوع من وحدات قوامها الكلمات، بل الأصوب أنه مصنوع من وحدات قوامها صيغ تلبي الحاجة الوزنية، وترسي أنماط التذكـر. وليس أدل على ذلك من القافية ولغة الضرائر التي هي نتاج الحاجة إلى التذكر، بحكم أن الوزن نشأ أساسا في ثقافة التلقي «الشفوية» وكثير من كلام العرب وسوائر أمثالهم وحكمهم لا يحويها شكل شعري، وهي رغم ذلك موزونة موقــعة؛ ولا سبب لذلك إلا لكونها تساعد على التذكـر.
والسؤال: ماذا يدرك القارئ في الصورة خاصة، أو في الشعر عامة سؤال مزدوج: فما المقصود بالإدراك؟ أهو شرح هذا الجانب التـمثــلي في الشعر وفهمه؟ أم هو أن يعيش القارئ تجربة حسية متخيلة في مقابل تركيبة الشعـر غير التمثلية ؟ ويمكن أن نطرح السؤال بصيغة أخرى: هل ينفصل فعل قراءة الشعر أي شرحه وفهمه وعيشه عندنا قدامى ومعاصرين عن فعل الإدراك؟ أم هو لا ينفصل؟ وكيف، ولــمَ؟ إن الإجابة لا تخلو من صعوبة، لأسباب منها اللـبس الحاصل بين الشرح والفهم في تراثنا النقدي، وكنت وقفت عليه في مقال سابق؛ فالمعنى ينتشر بواسطة الشرح، ويستقبل بواسطة الفهم. والشرح لا يعني الفهم ضرورة، فقد يقول الشاعر دون أن يكون لديه قصد واضح، أو هو مأخوذ بفعل القول لا غير، وقد تكون الصورة خلوا من المعنى، دون أن يعني ذلك خلوها من الدلالة. وهذا ما لا تقر به النظرية النـقدية القديمة، فالمعنى بُعْدٌ يلازم كل قول وكل فعل، والشعر ينتج ما هو كائن أو له أصل في الأعيان، ومداره على الممكن؛ و«كلـما توفـرت دواعي الإمكان كان الوصف أوقع في النفس وأدخل في حيز الصحة» بعبارة هذا القرطاجني الفذ الذي لم نحسن قراءته بعد ولا الاستدراك عليها. غير أن سؤال القراءة كان منطلقه الصورة «المشكلة ومثالها قديما أبو تمام، وحديثا أدونيس أو أنسي الحاج أو شوقي أبي شقرا… وهذه الصورة تنضوي إلى «الاختلاق الامتناعي» أو «الاستحالي» وهو أقرب ما يكون إلى نوع من «الإدراك الحلمي» يتعارض و«إدراك اليقظة».
يصعب تثبيت الصورة في معنى، إن لم يكن مستحيلا، حتى لكأنها ضرب من «خيال الظل» أو «ظل الخيال» الذي يضع الوهمي في متناول النظر، كما لو أنه واقع وحقيقة.
ومن ثمة يصعب تثبيت الصورة في معنى، إن لم يكن مستحيلا، حتى لكأنها ضرب من «خيال الظل» أو «ظل الخيال» الذي يضع الوهمي في متناول النظر، كما لو أنه واقع وحقيقة. وتُضاف إلى اللـبس بين الشرح والفهم، صعوبة أخرى تحول دون إدراك التجربة الجمالية في كليتها، ومردها إلى غياب ما يسمى بـ«التصفـح الزمني» أو «التوريق الزمني» أي المتسلسل تاريخيا، المخصوص بالقراءة في التراث النـقدي. وليس بميسورنا، مهما جاهدنا، أن نعيد ترتيب قراءة القدامى في الشعر عامة أو شاعر بعينه، أو أن نتميز تلك الأزمنة الثلاثة التي يقول بها الآخذون بـ«جمالية التقبل» والتي يمكن أن نستدل بها على مدارج القراءة وهي: الإدراك، أي اكتشاف النص، والفهم أي استذكاره أو استعادته من حيث هو كلية معطاة، والتأويل الذي يعيده إلى أفق كتابته وإلى شتى آفاق القراءات المتعاقبة عليه. وإن كان هذا متيسرا اليوم على نحو أفضل، فبالإمكان اليوم أن نقرأ السياب وأدونيس وسعدي يوسف وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش ومحمد بنيس وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر، في هذا الأفق دونما عنت كبير؛ لأن المادة النصية والقرائية مؤرخة ومتوفرة ورقيا وإلكترونيا.
على أن هذه الافتراضات مهما تكن رجاحتها، توقفنا على غنى القراءة، لكن دون أي إمكان لإعادة ترتيبها، إلا في حدود ضيقة جدا، فأكـثر كتب الشروح والنـقد ترسف في قيود من أبيات متفرقة، ونتف مبعثرة وقلـما اتـسعت لقصيدة أو لمعظم أبياتها. وربما تسنى في قليل منها مثل «موازنة» الآمدي و«أخبار» الصولي، أن ننظر في القراءة من حيث مواقيتها، إذ ينتظمها زمن أول يمكن أن نسميه «زمن الإدراك». ولا أحب أن أثقل على القارئ، وإنما أحيله على هذين الأثرين، خاصة الآمدي في المقدمة: «فإن كنت ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة. وإن كنت تميل الى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة ولا تلوي على غير ذلك فأبو تمام عندك أشعر لا محالة». ولو استبدلنا نزار قباني بالبحتري، وأدونيس بأبي تمام، لرجحت لنا هذه القولة.
على أن في هذين الأثرين وهما خلْفان بسبب من موقف صاحبيهما من شعر أبي تمام، إيماءة إلى تجربة الفهم الأولى عند الاثنين، أي فهم النص مقروءا وإدراك المشكل فيه. بيْد أن هذا الإدراك أوضح عند الآمدي، فقد أتاح له «قياس الخلف» وهو في المنطق ما يستدل فيه بامتناع أحد النـقيضين على تحقــق الآخر، أن يجلو «المشكل» على نحو قلـما نظفر به عند أنصار أبي تمام، على الرغم من أن المُصادرةَ هي نفسها، وهي انفراد أبي تمام بمذهب في الشعر. وهو عند الصولي «رأس في الشعر مبتدئ لمذهب سلكه كل محسن بعده فلم يبلغه فيه حتى قيل مذهب الطائي. وكل حاذق بعده ينسب إليه، ويقفى أثره» وشعره عند الآمدي «لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة». وهذا تقريظ وليس ذما.
أما إذا حصرنا المسألة في الكيفية التي يُؤول بها المشكل في الصورة، فهذا يستدعي أولا فحص هذا المصطلح الذي يخص المبهم والمشتبه المختلف عليه، ولعله على صلة بالمشكل القرآني؛ أو هو وفد على النقد من هذا المصدر، كما في مقدمة «مشكل القرآن» لابن قتيبة. وهذا يسوق إلى استنتاج سائغ في ما أرجح؛ ومفاده أن التأويل ها هنا، لا ينضوي على الإدراك على النحو الذي سلف ذكره، إذ يعمد أكثر القراء عادة، إلى استحضار نصوص شتى من شوارد الأبيات والآيات والحديث النبوي وسوائر الأمثال والمأثور في كلام الناس، أو إلى ثـقافته الفنية والتاريخية، ليجوز بها قراءة أو يدفع بها أخرى.
وهذا وجه من أوجه القراءة هو أقرب ما يكون إلى نوع من التداخل النصي يفسر فيه الشعر بالشعر، أو بما ليس منه، وقلما برئ من أحكام القيمة وسلم. ولئن خف السجال قديما، في مراحل زمنية لاحقة امتصت خلالها الحقبة الفاصلة بين القارئ، في القرنين الخامس والسادس للهجرة، وشعر المحدثين في القرنين الثـاني والثـالث للهجرة، شدة الحملة على المحدث؛ فقد تقلـب «شعر المعاني» في العالمين وتقررت سننه واستقر ما جرى عليه من أفانين القول وألوانه؛ فإن هذا السجال اليوم كأنه نشأة مستأنفة واستدراك على الأمس في الآن ذاته.
كاتب وشاعر تونسي