لم يكن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو في حاجة إلى تحويل الوباء إلى استعارة كما فعل كامو في «الطاعون»، ولم يتكئ على الكوليرا كي يأخذنا إلى قصة حب لا تنتهي، على غرار ماركيز «في الحب في زمن الكوليرا»، وهو أخيراً لم يتخذ من واقعية الكوليرا إطاراً لكتابة رواية عن الأسى والحب، كما في رواية اندريه شديد «اليوم السادس». ساراماغو ذهب إلى كافكا، مستوحياً وحشة الإنسان أمام احتمالات المصير الغامض الذي ينتظره.
كافكا اخترع كناية الرجل الحشرة، وساراماغو اخترع كناية العمى. تخيّل الروائي البرتغالي وباء لم يحدث وأطلق عليه اسم الوباء الأبيض. وبنى حكاية مدهشة في قدرتها على استكشاف المناطق المجهولة في التجربة الإنسانية. ففي مدينة لا نعرف اسمها يُفاجأ الناس بوباء لا اسم له. شخصيات الرواية التي تصيبها العدوى بلا أسماء، كأن العمى لا يغطي المشهد فقط، بل يحجب الأسماء أيضاً.
لا يأتي عمى ساراماغو من لا مكان، فالعمى موضوعة أدبية بدأت منذ الملحمة الإغريقية مع هوميروس الذي قيل إنه أعمى، وهذا نابع من معنى اسمه: الأسير أو الأعمى، وتأخذ بعدها الرؤيوي من شخصية العرّاف الأعمى تيريزياس في مسرحية سوفوكليس: «أوديب ملكا». ثم تتفرع بأشكال مختلفة في الأدب، مع شكسبير وميلتون والمعري، لتمتد إلى الأدب الحديث مع فلوبير واتش. ج. ويلز، وتتخذ بُعدها الإنساني مع «أيام» طه حسين، ومذكرات رجائي بصيلة.
في العادة، فإن الدخول في عالم قراءة رواية يتطلب قليلاً من الصبر كي يستطيع القارئ أن يفك رموز البداية. أما هنا، فبدلاً من أن يدخل القارئ إلى الرواية فإنها هي من يدخل إلى وجدانه. بدايةٌ لا تشبه سوى بدايات الروايات البوليسية، فوسط عجقة السير يفقد سائق بصره ويدخل في عالم البياض الحليبي. وتتوالى الأحداث بسرعة، الطبيب الذي عالج المريض الأول يفقد بصره في الليلة نفسها، وجميع الذين كانوا في عيادته يصابون بالعمى. وينتشر في المدينة وباء جديد لا سابقة تاريخية له.
لا يظهر على مرضى هذا الوباء سوى عارض واحد هو الإصابة بالعمى، وهو يشبه جميع الأوبئة في أنه معدٍ.
سلطات المدينة تقرر وضع العميان والذين احتكوا بهم، في الحجر الصحي داخل مستشفى مهجور للأمراض العقلية.
وتبدأ الرواية في رحلتها إلى الهلع والخوف والانحدار.
تنقسم الرواية إلى قسمين:
يدور القسم الأول في مستشفى الأمراض العقلية الذي حُوّل إلى محجر صحي، أما القسم الثاني فإن أحداثه تجري في المدينة التي صار جميع سكانها عمياناً.
ومن أجل أن يستطيع الراوي أن يسرد حكايته كان لا بد من مُبصر واحد وسط عتمة البياض التي تجتاح العيون. هذا المبصر هو زوجة الطبيب التي لا تفقد بصرها في مدينة سوف يفقد جميع سكانها أبصارهم.
لكن مصير زوجة الطبيب لن يكون كمصير المُبصر نونيز بطل «مدينة العميان» لويلز، الذي ينتهي إلى اقتلاع عينيه كي يتأقلم مع مدينته الجديدة. مبصر ويلز يجري تهميشه، أما زوجة الطبيب فرغم ترددها ومشاعرها المتناقضة، فإنها سوف تكون العين التي تقود العيون المغمضة إلى الخروج من المستشفى.
ما يجري في المستشفى مخيف، بشر ينحدرون بسرعة إلى ما يشبه الطبيعة الحيوانية، فقدوا مع أبصارهم كراماتهم، لكنهم يتمسكون بغريزة البقاء.
لكن مفاجأة المحجر الصحي تكمن في أمرين:
وحشية الجنود الذين يحرسون هذا المعزل التي تتجسد في عدم اكتراثهم بمصير المرضى، وقيامهم بإطلاق النار على كل من يتقدم نحوهم، حتى ولو كان يبحث عن صناديق الطعام التي كانوا يرمونها ويهربون خوفاً من الوباء. كأننا أمام معزل للمجذومين الذين يُتركون للموت.
وقيام مجموعة من العميان يملك زعيمهم مسدساً بالاستيلاء على الطعام وتدفيع المرضى كل ما يملكون، ثم إجبار النساء على ممارسة الجنس من أجل أن يحصلوا على الطعام. وحشية واغتصاب وسادية، تشير إلى أن الهيمنة الطبقية لا تتأسس إلا بالعنف.
وبعدما نجحت زوجة الطبيب المبصرة في قتل زعيم الوحوش البشرية بمقص كان في حوزتها، تنشب معركة غير متكافئة تنتهي بحريق هائل يلتهم المكان.
لم يعد أمام العميان من وسيلة لاتقاء النار سوى الهروب حتى ولو تعرضوا للقتل على أيدي أفراد الجيش. لكنهم يفاجأون بأن حرس المبنى أصيبوا بالعمى وهربوا، فيخرج العميان من سجنهم إلى مدينة غارقة في العمى الأبيض، لأن كل سكانها أصيبوا بالوباء.
وهنا تبدأ رحلة توحش جديدة بحثاً عن الطعام. مشاهد مرعبة، بشر يأكلون اللحم النيء، يمشون على أربعة، يتقاتلون على البقايا، ويتشكلون في قطعان تائهة تجوب الشوارع.
بدلاً من أن يستيقظ الإنسان وقد صار حشرة بشكل مفاجئ، كما في قصة كافكا، فإنه ينحدر إلى مرتبة الحيوان في سياق تلبية حاجات غريزة البقاء.
وفي النهاية، ينحسر الوباء بلا سبب أو مقدمات، مثلما أتى، ونستمع إلى زوجة الطبيب تقول: «لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون».
رواية تلخّص معسكرات الاعتقال والقمع البوليسي ووحشية الطبقات المسيطرة، لكنها تأخذنا في النهاية إلى بؤس الإنسان وعجزه.
نحن لسنا أمام تراجيديا إغريقية، أوديب دفع ثمن قدره، أما عميان ساراماغو فهم خارج معادلة السبب والنتيجة. إنهم عراة أمام قدر لئيم ومتوحش، قدر يحوّل المأساة إلى سخرية، والعواطف الإنسانية إلى لعبة، ويمحو الحب.
لحظات العاطفة بين المرأة ذات النظارة السوداء والطفل الأحول، أو بين الكلب وزوجة الطبيب، سرعان ما تتلاشى أمام مشاعر الخوف والإحساس باقتراب الموت جوعاً.
الزعران الذين اغتصبوا النساء في المحجر دمروا فكرة الحب نفسها، فصار اللقاء مجرد بحث عن دفء كاذب في عالم يجتاحه جليد الرعب.
عالم بلا حب، كأن الرواية تقول حقيقة الحب، وهو أنه نتاج ثقافي نشأ كتعبير عن حاجة روحية تؤنسن الإنسان.
الكناية تلتهم تفاصيل الحياة كي تؤسس بنيتها، ففي غمرة العماء لا مكان للذين ولدوا عمياناً وتعلموا أن يروا بحواسهم الأخرى، فعدا عن مرافق زعيم العصابة الذي كان يعرف أن يكتب بطريقة «بريل»، لا مكان لهذه الفئة من العميان في الرواية.
وعلى الرغم من واقعية السرد وقدرة المؤلف المدهشة على صوغ تفاصيل الحياة البيضاء، لكن الكناية تقذف بالنص إلى الأمثولة وتأسر الحكاية في إطار واحد.
إعادة قراء هذه الرواية وسط وباء كوفيد 19 يصيب القارئ بالهلع. وباء اليوم حقيقي وليس مجازياً، لكن المسافة بين الحاضر والكناية تبدو سريعة التلاشي. فالكورونا تتحول اليوم إلى ما يشبه الكناية، معها نكتشف الوحشية التي تقتل مسنّي أوروبا بلا رحمة، وجشع الرأسمالية التي تضحّي بحيوات البشر على مذبح إله السوق، وجنون العظمة الذي يقود أمريكا إلى الكارثة.
كورونا صارت آلة يتكنّى بها الاستبداد، كي يواصل حربه على الفقراء، وهذا ما نشهده في لبنان، حيث تتصرف الأوليغارشية ومافيا الفاسدين وكأن كورونا قدمت لهما رأس الانتفاضة.
هل ستنتصر المافيا على الانتفاضة، أم أن البركان الذي يستعد للانفجار سوف يحرق الوباءين معاً: كورونا والنظام؟
يجب تأجيل كل شيئ حتى يتم القضاء على كورونا!! ولا حول ولا قوة الا بالله
في هذه الجائحة الانسانية لا مكان إلا لحكمة الأدب. الأدب وحده يكشف عورة الإنسان وجشعه ووحشيته عندما ينفض عنه غبار التحضر الكاذب. عندما قرأت العمى لم أستسيغها فعليا ووجدت انها عالم متخيل لا يمكن أن يقع ولكن مع كورونا كان ساراماغو محقا جدا
شكرا استاذنا الكبير
العمى عورة اصابت الجميع ومثلما صنع الاقوياء فيروس كورونا الاقوياء ايضا صنعوا افة العمى وهل هم يبحثون اليوم عن بصير يبتعد الجائحة ولا من بصير
العمى سمة الجميع