ــ آلو.. أنا مارغريت من المعهد الثقافي البريطاني في بغداد، هل أستطيعُ محادثة السيد (ف) لو أمكن؟
ــ أهلاً.. أنا (ف) تفضلي
ـ أهلاً بك. أنا مسؤولة الإعارات الخارجية في مكتبة المعهد. وصلتْ مكتبةَ المعهد وجبةٌ كبيرة من كتب حديثة في موضوعات الفيزياء والفلسفة والرياضيات والحاسوب، وهي في معظمها من إصدارات جامعة كامبردج وأكسفورد. أعرف اهتماماتك في هذه الموضوعات، لكثرة استعاراتك فيها، وقد أحببتُ أن أعلمك بشأنها؛ فربما كانت لك رغبة في الإطلاع عليها. أتطلّعُ قريباً أن أراك في المعهد لكي تعيد الكتب التي بحوزتك وتستبدلها ببعض الكتب الحديثة.
ــ شكراً عزيزتي، ممتن لاهتمامك، إلى اللقاء.
أقفل سمّاعة الهاتف الأرضي وراح يتفكّر في ما حصل. هو يعلم أن مارغريت أرادت توصيل رسالة له بأنّ أعداداً ليست قليلة من كتب مكتبة المعهد البريطاني لم تزل في عهدته منذ زمان ليس بالقليل، وقد تجاوز الأعداد المسموح بها للاستعارة، كما تجاوز الأزمان المحدّدة للاستعارة بكثير. المعروف أنّ موظفي المعاهد الثقافية يتعاملون بكياسة، ولا يتقيّدون كثيراً بصرامة التعليمات الخاصة باستعارة الكتب.
انطلق إلى المطبخ لإعداد شاي العصر. أعدّ له كوباً من الشاي ثم راح يتناوله على مهل في حديقة البيت. تراءت أمامه صورتان متناقضتان.. مارغريت موظفة المكتبة في المعهد الثقافي البريطاني، وهي تبلغه بكل كياسة أن يعيد ما بعهدته من كتب المعهد، وفي المقابل رأى نفسه وهو يدلف مكتبة كلية الهندسة وتعليقاتُ بعض موظفات المكتبة تجرح أذنه: «ها هو قد جاء ثانية. صبّرْنا عليه يا الله». كانت الموظفات يتقصّدن إسماعه تلك العبارات الثقيلة.
امتعض (ف) بعض الوقت من سلوكه تجاه مكتبة المعهد الثقافي البريطاني.. هل كان ليجرؤ على استعارة ذلك العدد من كتب كليته، وأن يحتفظ به كل ذلك الزمن، من غير حساب عسير يثقل كاهل جيبه؟ حاول ـ ما استطاع ـ تناسي الموضوع، لكنه لم يستطع.
ـ أنت سارق يا (ف)
ـ لستُ سارقاً. هل تسمّي الاحتفاظ ببعض الكتب سرقة؟
ـ يبدو أنّك تحبّ الالتواءات اللغوية، وأنّ ملاعبة اللغة جزء من موهبة متأصلة فيك. السرقة صارت لديك (الاحتفاظ ببعض الكتب).
ـ هل سمعت يوماً بِـ (سارق للكتب)؟ الناس لا تسرق الكتب يا صاحبي.
ـ لنفترض وجود بعض الكتب ذات الأغلفة المطلية بالذهب؛ ألن تكون هدفاً يثيرُ شهية السرّاق؟
أها.. هم في هذه الحالة سيسرقون الذهب المختزن في هذه الكتب، ولو جرّدت الكتب من الذهب لما صارت تعني شيئاً للسرّاق.
ـ طيب.. لنفترض أنّ بعض السراق علموا بوجود بعض كتب ليوناردو دافينشي الأصلية في حوزة شخص ما؛ ألن يفعلوا المستحيل ليسرقوها؟
ـ يبدو لي أنك تتحدثُ عن الكتاب كسلعة لا كحزمة من الأفكار. الأفكار تتسامى على القيمة السلعية. أنا أحبُّ الكتب كأفكار لا كقيمة تداولية، يمكن بيعها في البورصات مثل الأسهم وسندات التداول المعروفة.
ـ دعنا ندقق في كلامك.. هل دققت في الكتب التي استعرتها من مكتبة المعهد الثقافي البريطاني واحتفظت بها لديك؟ هل لاحظت أنها كتب حديثة الإصدار، نشرتها كبريات الجامعات البريطانية، وفي مقدمتها كامبريدج وأكسفورد؟
ـ وماذا في ذلك؟
ـ سيدي، أنت تسرق الكتب ـ عفواً، لنقل تحتفظ بالكتب ـ التي تمثل قيمة لديك، وليس من الضروري أن تتفق أو تتماثل معاني القيمة لديك مع الآخرين. بعبارة أخرى.. قد يتماثل الغلاف الذهبي لكتاب ما لدى بعض الناس ـ من حيث القيمة ـ مع كونه صادراً من جامعة كامبريدج أو أكسفورد لديك.
ـ ما الذي تريده بالضبط؟
ـ أريد القول إنّ السرقة سرقة، ولا فائدة من المراوغة والتسويغ والمسالك الالتفافية. لو أراد كل منا تسويغ أفعاله فلن يكون عسيراً عليه أن يبتكر ألف وسيلة ووسيلة لصبّها في إطار أخلاقي مقبول. هل تصلح هذه الأفعال المراوغة لإشاعة منظومة أخلاقية مقبولة وسلوكيات محمودة بين الناس؟
ـ أنا لم أحتفظ إلا بالكتب التي أعرف أن لا أحد يهتم بها. أنظر هذا الكتاب: The Particle Connection الذي ألفته Christine D. Sutton المُحرِّرة في مجلة «نيوساينتست». أنظر قائمة الاستعارة في مؤخرة الكتاب، لا أحد استعاره رغم مضي ثلاث سنوات على وجوده في المكتبة قبل أن أستعيره أنا. هل ترى من الأفضل أن يبقى هذا الكتاب مهملاً يتآكله الغبار على رفوف مكتبة المعهد الثقافي البريطاني؛ أم أن يرتاح لديّ بين أحضان أحبائي من الكتب الأخرى؟
ـ ها قد عدتَ يا صاحبي إلى ملاعباتك. لم تكتفِ بملاعبات لغوية، بل قرنتها بملاعبات سايكولوجية كذلك، هل قرأتَ هذا الكتاب الذي أشرتَ إليه؟
ـ نعم قرأته بالطبع
ـ فعلامَ تحتفظ به إذن؟ أنت تبحث عن الأفكار دون سواها، وكونك قرأتَ الكتاب يعني أنك تمثلت أفكاره وضممتها إلى عدّتك الفكرية.
ـ الحقيقة أنا أرتاحُ لوجود هذه الكتب جواري حصراً.
ـ القيمة التداولية للكتاب يا صديقي مأثرة أخلاقية عظمى. تصوّر لو أنّ كثيرين مثلك استحوذت عليهم فكرة الاحتفاظ، بكلّ كتاب يستعيرونه من مكتبة ما؛ فهل سيبقى كتاب في تلك المكتبة ينتفع به آخرون؟ يمكنك لو أردت أن تشتري كلّ كتاب تريد وتحتفظ به؛ لكن يبدو أنك لا تريد دفع الثمن! هل انتبهت إلى هذه المعضلة.. هَوَسُك بالأفكار التي يحتويها الكتاب، ومن ثم الاتكاء على هذا الهوس ليكون مسوغاً للاحتفاظ بالكتب، إنّما هو وسيلة التفافية تريد منها التفلّت من واجب أخلاقي ملزم، هو أن تدفع ثمن ما تحب الاحتفاظ به من موجودات مادية.
ـ لقد أتعبتني.. ماذا تريد؟
ـ أريد القول إن واجباتنا الأخلاقية تنبع من التزام بسيط ومباشر بموجبات تلك الواجبات، من غير أن نسوّغ أفعالنا المشتهاة بما نشاء. لعبة التسويغ هذه لعبة مفتوحة النهايات تجلب الخراب النفسي والعقلي والأخلاقي لمن لم يتمكن الموت من ضميره بعدُ. ثمة أمر آخر.. قد نرى في بعض أفعالنا (طهرانية) موقوفة علينا دون سوانا، وهذه الطهرانية ـ الموهومة ـ قد نجعلها وسيلتنا في تسويغ ارتكاب بعض الأفعال التي لا نرتضيها لآخرين. أنت ترى في (احتفاظك ببعض الكتب) حقاً حصرياً مسموحاً لك تبيحه طهرانيتك الناجمة عن هوسك بالمعرفة. أليس هذا ما تراه؟ هذا مزلق فكري خطير، وقبل هذا هو مثلبة أخلاقية يا صديقي.
ـ…………
* * *
ــ صباح الخير. أريد مارغريت لو سمحتِ
ــ أنا مارغريت. تفضل
ــ ما ترينه أمامكِ ستة وأربعين كتاباً (سرقتها) من المكتبة، وأريد إعادتها الآن. أنا مستعدٌّ لأي جزاء مالي
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه مارغريت، وقالت:
ــ لا تقل (سرقتها). قل استعرتها ونسيتها فحسب
ــ لا. أنا قصدتُ سرقتها منذ اللحظة التي وقعت عيناي عليها
ــ طيب. كما تحب
ابتدأ (ف) يخرجُ الكتب من أكياسها، ويضعها واحداً بعد آخر أمام أنظار مارغريت.
– هذا كتاب The Nature of Matter وهذا كتابIntroduction to High Energy Physics، وهذا Bertrand Russell and The British Tradition Philosophy in، وهذا
I Am a Mathematician
،…………………..
ــ ما بك سيد (ف)؟ هل أنت بخير؟ هل تشكو من مرض السكّري؟
ــ أنا بخير. إنه إرهاق مؤقت ناجم عن نومي السيئ
أكمل (ف) تسليم كل الكتب لمارغريت، وخرج من المعهد الثقافي البريطاني من دون غرامة مالية. اشتهى المشي لبعض الوقت في شوارع الوزيرية القريبة من المعهد. كان منتشياً رغم حزنه، وساعده المشي على التنفس بعمق كما لم يتنفس من قبل.
كاتب من العراق
استاذنا المتميز .. نص اكثر من رائع .. الف تحيه للاسلوب الابداعي الذي يشد للقراءة وللمفهوم الاخلاقي الرائع في النص .. الف تحيه