نواكشوط- «القدس العربي»: تُقبل موريتانيا، اليوم، على صيف سياسي ساخن ذي عواصف رعدية. ذلك ما يؤكده إعلان وزارة الداخلية الموريتانية على صفحتها الرسمية، وبصورة مفاجئة، عن البدء في تنفيذ بنود الميثاق الجمهوري المثير، الموقّع يوم بتاريخ 21 سبتمبر 2023، بين الحكومة وأحزاب اتحاد قوى التقدم وتكتل القوى الديمقراطية من المعارضة المُهادِنة وحزب الإنصاف الحاكم.
ولا يحظى الميثاق المذكور بقبول في المشهد السياسي، حيث أكدت قيادات أحزاب التجمع الوطني (الإسلاميون)، والصواب (البعثيون) والفضيلة والإصلاح وحاتم (أحزاب من الأغلبية) أن أحزابها “غيرُ معنية بالوثيقة”، فيما آثرت أحزاب أخرى الصمت.
لكن وزارة الداخلية، الذي تقود هذا الملف وسط الألغام، بدت وكأنها في عجلة من أمرها، فأكدت في إيجازها “أن لجنة الإشراف المشكّلة من الأطراف الموقّعة على الميثاق عهدت إلى اللجنة الفنية بالقيام، في أسرع الآجال، باتخاذ التدابير اللازمة المُحضرة لانطلاق الورشات المتعلقة بالمواضيع المدرجة في الميثاق، حسب الجدولة المُعتمدة، وذلك بعد استكمال الاتصالات التي قامت بها الأطراف الموقعة على الميثاق مع الأحزاب السياسية”.
الحكومة تتّجه بصورة مستعجلة لتنفيذ بنود الميثاق الجمهوري، بما فيها دراسة إصلاحية معمقة للمنظومة الانتخابية، واستحداث آلية لحلّ ملفات حقوق الإنسان، وتفعيل وتطبيق المنظومة القانونية التي تجرّم الممارسات الاسترقاقية
ويفهم بوضوح من بيان وزارة الداخلية أن الحكومة تتّجه بصورة مستعجلة لتنفيذ بنود الميثاق الجمهوري، بما فيها دراسة إصلاحية معمقة للمنظومة الانتخابية، واستحداث آلية ذات مصداقية لحلّ ملفات حقوق الإنسان، وتفعيل وتطبيق المنظومة القانونية التي تجرّم الممارسات الاسترقاقية، إضافة للإصلاح العقاري، وترقية اللامركزية، والتقيد بالفصل الصارم بين الوظائف السياسية والوظائف الفنية.
وعند استقراء هذه الملفات نلاحظ أن ملفات حقوق الانسان، وتجريم ممارسات الاسترقاق، والإصلاح العقاري، واللامركزية موضوعات ليست بالجديدة، وتطرحها مختلف أحزاب وأطياف الساحة السياسية الموريتانية بدرجات متفاوتة، حسب الخلفية العقائدية لهذا الاتجاه أو ذاك، وبحسب ارتباط هذا الموضوع أو ذاك بتلك الخلفية، وهي مع ذلك موضوعات تتّسم بالتعقيد ما يجعل الفراغ من علاجها يتطلب عقوداً أخرى، رغم أنها شغلت الساحة السياسية الموريتانية على مدى العقود الماضية.
ويلاحظ في بيان وزارة الداخلية أن الملف المتعلق بمراجعة وإصلاح المنظومة الانتخابية هو الوحيد الذي استخدمت فيه عبارة “القيام على وجه الاستعجال بدراسة معمقة للمنظومة الانتخابية، وإجراء إصلاحات عليها؛ وهنا تستحق كلمة “الاستعجال” أن يوضع خط تحتها.
ولمراقب الشأن الموريتاني المتّسم بالكثير من التوتر، والمقبل على انتخابات رئاسية أن يتساءل: هل المقصود من طرح موضوع المنظومة الانتخابية بهذه الصيغة، ونحن على بعد أشهر قليلة من استحقاق انتخابي كبير، مع لفّه في سياق موضوعات أخرى تقليدية يحتاج علاجها الى مسار طويل، التوجّه بشكل مبطن نحو إدخال تعديلات جوهرية على المسار الانتخابي، بما قد يطال مواعيد الانتخابات ومدة المأموريات وعددها.
ناقشت “القدس العربي” هذه التطورات مع عدد من خبراء وساسة موريتانيا، حيث أكد النائب البرلماني المعارض محمد الأمين ولد سيدي مولود أن “المصادقة على ترتيبات الميثاق الجمهوري، مجرد نشاط استهلاكي إعلامي ممجوج، لن يترتب عليها الكثير لعدة أسباب؛ أولها أن مسودة الميثاق نصّت على جدول زمني من شهرين لهذه الانطلاقة، وقد تجاوز هذا الزمن بكثير، ما يظهر أن الأطراف التي وقعت على الميثاق لم تلتزم بما وقعته بينها”.
وقال: “الميثاق وُلدَ ميتاً، لأن أغلب الأطراف السياسية في موريتانيا، بما في ذلك أحزاب من الموالاة وأغلبية المعارضة، لم تقتنع به، ولم تشارك فيه، ومحاولة إحيائه الآن هي فقط تغطية على الواقع السيئ، الذي تتلخص ملامحه في الضجة الكبيرة التي أثارتها قضية الهجرة، وبما فيها مشاكل كبيرة في التعليم العالي، وملفات الفساد التي تنفجر كل يوم”.
وحول ما إذا كانت الحكومة تسعى لوضع المعارضة أمام الأمر الواقع، عبْر البدء في تنفيذ الميثاق الجمهوري، أكد النائب سيدي مولود أن “وزارة الداخلية والنظام ضربوا عرض الحائط بنتائج الحوار الانتخابي الجزئي الذي تم الاتفاق عليه قبل الانتخابات البلدية والنيابية الماضية، ولذلك لا قيمة لأي اتفاق انتخابي معهم الآن”.
وقال: “يمكن للسلطة أن تقوم به دون أن تتشاور مع أي أحد، أما إذا كانت لا تريده فحضور الناس معها لن يرغمها عليه، فالسلطة تتمتع بـ 80% في البرلمان، وتستخدم المال العام والإدارة ومرافق الدولة ونفوذها في مجتمع مثل مجتمع موريتانيا، ولذا فهي لا تحتاج لموافقة أطراف معارضة على أجندتها، إلا إذا كان الهدف من الحضور هو تشريع ستقوم به السلطة”.
وقال: “شخصياً، لا أتوقع أي تغيير في المأموريات، ولا عددها، ولا مدّتها، ولا أتوقع أيّ تأجيل للانتخابات الرئاسية، ولكنني أتوقع أن الانتخابات القادمة ستكون انتخابات ضعيفة المصداقية، وقد تؤدي الى اندلاع مظاهرات في حالة عدم الاعتراف بها وعدم ضمان شفافيتها، وقد تدخل موريتانيا في بلابل”.
أما الخبير الإعلامي والإستراتيجي أحمد سالم سيدي عبد الله، فقد أكد، في مناقشة للموضوع مع مراسل “القدس العربي”، أن “السلطات قتلت الميثاق الجمهوري في المهد، عبر مماطلتها في تنفيذ ما اتفق عليه في الآجال المحددة مع الأطراف الموقعة عليه، والمحددة بشهرين من تاريخ توقيعه، فها نحن اليوم، بعد أزيد من خمسة أشهر من تاريخ توقيع الميثاق، تطالعنا السلطات، عبر الوزارة الموقعة باسمها على الميثاق، بضرورة اتخاذ التدابير اللازمة المحضرة لانطلاق الورشات لمناقشة المواضيع المدرجة في الميثاق، “حسب الجدولة المعتمدة”.
السالك: طرح الميثاق الجمهوري في هذا الوقت، قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، وبطريقة تخلط بين مسائل مطروحة منذ عقود، ومسائل ذات طابعي إستراتيجي، يطرح من الأسئلة أكثر مما يعطي الأجوبة
وأضاف: “أرى أن الوقت لم يعد في صالح الميثاق، فنحن على أبواب انتخابات رئاسية ستجعل السلطات تركز على الحملة لإعادة انتخاب الرئيس لمأمورية ثانية، ولم يعد أمام الجميع أي وقت لتنظيم أو تنفيذ مخرجات هذه الورشات، التي يتم الحديث عنها، ناهيك عن الخلاف المتصاعد داخل أهم أحزاب الميثاق، وهو حزب تكتل القوى الديمقراطية، حول آليات تنفيذ هذه الورشات المذكورة في بيان الوزارة، لكن قد يتم تحويل الأمر برمته إلى نقاش لإيجاد آلية لدخول التكتل، واتحاد قوى التقدم ضمن الأحزاب الداعمة لترشح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لمأمورية ثانية، ضمن تفاهمات سياسية غير معلنة حتى الآن، بين أطراف الميثاق”.
ويرى الدكتور ديدي السالك، الأستاذ الجامعي، ورئيس المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية، أن “بيان وزارة الداخلية المتعلق بالميثاق يطرح جملة من الأسئلة المشككة أكثر في النيات، وذلك لقلة مصداقية هذا المسار، فالميثاق الجمهوري طرح منذ عدة أشهر، ولم تقدم في ترتيبات تنفيذه، لذا فقد يكون الهدف من طرح ملف الميثاق الجمهوري حالياً لفت الانتباه عن موضوع الهجرة المطروح بحدّة في موريتانيا ومحاولة الحكومة الموريتانية التواطؤ بشأنه مع الأطراف الأوروبية”
وزاد: “أما الاحتمال الثالث فقد يكون ما يروج له منذ فترة، وأنا أستبعده للترتيبات الدستورية التي تعترضه، وهو توجه لتأجيل الانتخابات الرئاسية”.
وأكد الدكتور ديدي أن “طرح الميثاق الجمهوري في هذا الوقت، قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، وبطريقة تخلط بين مسائل مطروحة منذ عقود، ومسائل ذات طابعي إستراتيجي، ومسألة مؤقتة هي موضوع الانتخابات، يطرح من الأسئلة أكثر مما يعطي الأجوبة”.