سامي مهدي… واكتمال المعنى الشعري

شاعر وناقد ومفكر وإعلامي، ترجل عن صهوة الشعر والنقد والفكر والإعلام، في الأول من أيلول/سبتمبر الماضي، بعد صراع مع المرض، عن ثمانية وثمانين عاما، وتخرج في كلية الآداب في جامعة بغداد عام 1962، وتقلَّد مناصب ثقافية وإعلامية بارزة عديدة، ذلك هو سامي مهدي (1940 ـــ 2022) الذي قال عنه صديقه المقَّرب الدكتور خالد علي مصطفى: إن شعره يشكل متنا مستقلا في خريطة الشعر العربي الحديث، وهو يقف مع كبار شعراء العربية، الذين انطوت قصائدهم الكبرى على تحولات الرموز مثل معلقة لبيد وبائية ذي الرمة وعمورية أبي تمام ولامية المتنبي وأنشودة مطر السياب وصقر أدونيس، وإنه باحث أكاديمي من الطراز الأول، وإن له دورا تاريخيا في حركة شعراء (ما بعد السياب) وسامي مهدي واحد من الشعراء الذي وقعوا على البيان الشعري الستيني عام 1969 إلى جانب خالد علي مصطفى وفاضل العزاوي وفوزي كريم، وأصدر لاحقا كتابه عن هذا البيان وعن الجيل الستيني (الموجة الصاخبة) والذي تبعه كتابان هما:(الروح الحية) لفاضل العزاوي و(شعراء البيان الشعري) لخالد علي مصطفى.
كان سامي مهدي واحدا من الذين يعملون على تجديد الأناشيد وتعديل موازين الحياة، وكان يقول: (حين يجفوك يومٌ، تجمَّل، وفكر بيوم جديد) ، وكان يقول: (عرفتُ الكثيرَ، لكنني لم أزلْ جاهلاً) و(حياته بقيتْ تجري جريانَ النهرِ الضائعِ في الوديانِ) وكان حين يستمع إلى المغني داخل حسن تنتابه نوبة من البكاء، وكان يقول: (بشرٌ نحنُ، لكنّنا لا نُباعُ ولا نُشترى، بشرٌ نحنُ، لكنّنا نقطعُ الشكَّ بالشكِّ…ونروّضُ أرواحَنا بالغناءِ الحزينْ) حمل (فضول النبيين والشعراء) وقال ما قال، وهو يرى أن (تغييرُ العالمِ وهمٌ من أوهامِ نظرياتِ الثورةِ، وحلمٌ من أحلامِ مساكينِ الشعراءْ) وفي أشعاره، يعود العراق الجميل الذي قيل عنه: مات، كما عاد تموز من رحلة المستحيل:
(العراقُ العراقُ الذي قيل: ماتْ
ستحفظه الناسُ عن ظهرِ قلبٍ
وتقرؤه عند كلِّ صلاةْ
لينهضَ ثانيةً في حدائقها
وأناشيدِ أطفالِها
ويعودَ كما عادَ تمّوزُ من رحلةِ المستحيلْ
العراقُ الجميلُ)
كان سامي مهدي يكتب القصيدة القصيرة، غالبا، قصيدة الفكرة، التي تعتمد على التركيز وطرح الرؤية، بالاعتماد على جماليات فنية ورؤيوية خاصة، قصيدة ذات بناء مرصوص ومحكم، وذات إيقاع متناسق مع المعنى ومعبر عنه، وكانت ذاته الشاعرة منشغلة بالإنسان وهمومه وطموحاته وآماله، وكان ذلك واضحا كل الوضوح في كل ما كتب من شعر، وظل ملتزما بقصيدة التفعيلة، أي أنه لم يكتب القصيدة العمودية ولا قصيدة النثر، وكتب القصيدة المدورة، وأدخل الحوار في قصائدة، وكتب ما يمكن أن نطلق عليه تسمية القصيدة القصصية التي تعتمد شعريتها على السرد المكثف، كما كتب القصيدة المشهدية القائمة على الحركة والحوار، وكانت الكناية بوصفها مؤثرا بلاغيا حاضرة على نحول واسع في شعره بالإشتراك مع الخيال والحواس، واستعمل الرموز لتكوين مرتكزات فكرية دالة في المتن الشعري.
القصيدة عنده عمارة مشيَّدة، والخطاب الشعري خطاب بِناء، وهو يقول: (القصيدة ليست كلاماً سائلاً، ولا مجرد صورة حاذقة، أو مفارقة ذكية، أو طرفة، أو حكمة، أو ما إلى ذلك مما نقرؤه اليوم في كثير من المجموعات، أو على صفحات التواصل الاجتماعي، القصيدة ليست هذا ولا هي شيء منه، لأن الخطاب الشعري خطاب بِناء، والقصيدة التي ينشئها عمل فني مركب، عمارة مشيدة، ولهذه العمارة شكل ينتظمها وينظمها، لا بد من أن يكون لها شكل، ولهذا الشكل سمات وخصائص تميزها عن غيرها من القصائد، وتميز صاحبها عن غيره) يقول:
إذا ما صغرتُ غداً
فسأهربُ من طيشِ أمّي
وتقوى أبي،
وسأغدو إلى حارةٍ
ليسَ فيها رجالٌ كدودونَ
أو نسوةٌ كالرجالِ،
ولن أتعلّمَ في أيّ مدرسةٍ،
بل سأبحثُ عن لِدَةٍ لم أغرّرْ بها ذاتَ يومٍ،
وعن لعبةٍ فاتني الدورُ فيها،
فإن فاتني الدورُ ثانيةً
فسأسرقُ «كيسَ الملبَّسِ» من بيتِ عمّي
وآكلُ حتى الملالِ
وأنثرُ ما يتبقّى على العابرينَ
وأفزعهم،
وسأضحكُ
أضحكُ
حتى أموتْ)
كتب سامي مهدي مذكراته تحت عنوان (شاعر في حياة، ذكريات وأطياف) وهذه المذكرات كما يصفها هو (ليس سيرة ذاتية، ولا سيرة أدبية، بل ذكريات على هامش السيرتين، وقبسات منهما طغى فيهما الأدبي على غيره، ويتألف الكتاب من قسمين: الأول يتعلق بذكرياتي الأدبية المتعلقة بشخصي، والثاني يتعلق بأدباء وفنانين كانت لي ذكريات ومواقف معهم، ويكمل القسمان أحدهما الآخر ويضيئه… والكتاب يلقي أضواء على تكويني الثقافي، والمصادر التي نهلت منها، وعلى جوانب من سيرتي الأدبية، وحياتي المهنية، ومواقفي الشخصية). قبل انقطاعه عن الاتصال بالناس عبر صفحته على فيسبوك بأربعة أيام، وضع سامي مهدي في السادس من حزيران/يونيو الماضي بين أيدي القراء والباحثين جميع مؤلفاته، وذلك عبر غوغل درايف ((Google Drive، وكتب يقول: (تحية طيبة، يطيب لي، أنا سامي مهدي، أن أضع بين يدي الباحثين والقرّاء دواوين شعري ومؤلفاتي المنشورة، ولهم حرية تنزيلها، ويمكنهم الوصول إليها عبر الروابط التالية) ووضع تلك الروابط، وقد شملت تلك المؤلفات: الأعمال الشعرية الكاملة، المؤلفات النثرية الكاملة، الدواوين المنشورة، في السيرة الذاتية، وفي شعرية سامي مهدي. وآخر رسالة وجهها إلى أصدقائه على فيسبوك كانت في التاسع من يونيو الماضي، وجاء فيها: (أصدقائي الأحبة، دمتم في خير وأمن وعافية وسلام، كنت طوال الأسابيع الماضية في تعب ومرض، تعذر عليّ فيها الانفتاح عليكم، إن صحتي تتحسن هذه الأيام، لكنني ما أزال بحاجة للراحة، شكراً لكل من تفقدني منكم ومن وسأل عني ودمتم في أحسن الأحوال).
أما آخر منشور له على صفحته في فيسبوك فقد كان يوم العاشر من يونيو الماضي، وجرى فيه إعادة نشر قصيدة له سبق أن نشرها على صفحته هذه في 8 يونيو 2015، عنوانها (فخر) يتحدث فيها عن نفسه، وجاء في تلك القصيدة:
مكتفٍ بوجودي،
ومعنايَ مكتملٌ بي،
ولا شيءَ ينقصُه
من معانٍ تشظَّتْ وراءَ حدودي،
وأنا واضحٌ،
وشفيفٌ كماء العيونِ،
فذاتي تحيلُ إلى ذاتِها دونَ لبسٍ،
ولا سرَّ أخفيه عن حاقدٍ،
لا غموضَ ألوذُ به من حسودِ،
واحدٌ أحدٌ في جميعِ مرايايَ،
لا وجهَ لي غيرُ وجهي،
وبيتُ قصيدي اكتفائي بذاتي ومعنايَ،
لا خشيةً من سؤالٍ،
ولا طمعاً في خلودِ .
وقد قامت ابنة الشاعر الراحل الدكتورة المهندسة نوار سامي مهدي بجمع وإعداد المقالات النقدية التي كتبها شعراء ونقاد وباحثون عراقيون وعرب عن شعر سامي مهدي وشاعريته، فنتج عن ذلك الجهد كتاب عنوانه (في شعرية سامي مهدي) وجاء بجزئين.
في الثاني عشر من إبريل الماضي، حين رحل حسب الشخ جعفر، كتب سامي مهدي: (وداعا حسب…وداعا) وما كان يدري (ومن يدري؟) أنه سيلحق
بحَسَب بعد 141 يوما فقط، وكان كما نشر على صفحته على فيسبوك وهو ينظر إلى أحوال العراق: «يتمنى ظهور قيادة حكيمة ونظيفة وقوية وحازمة تمسك بزمام السلطة وتدير شؤونها» مبيِّنا «أن حاجة البلاد الحقيقية هي: أن يكون لها نظام ديمقراطي حقيقي، نظام مدني حديث، يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات، ويحترم الإنسان وتصان حقوقه، فالنظام القائم نظام مشوه في دستوره وقوانينه ونظمه، وساسته المتسلطون يستغلون الناس أبشع استغلال».
وختاما نقول: وداعا أبا نوار، ونم قرير العين، واعلم أن ما قدمته من إبداع شعري ونقدي وفكري، سيظل محل تقدير عال وعناية عالية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسين الجبوري:

    سلمت وسلم قلمك ..مقال رائع عن الشاعر الكبير سامي مهدي رحمه الله

    1. يقول غزاي درع الطائي:

      شكرا لك من القلب

إشترك في قائمتنا البريدية