ساناري أو الجنة

■ بحثاً عن الشمس والبحر، ولا شيء آخر، تركت باريس إلى سحرها الأبدي وسافرت إلى الجنوب، إلى سحر مختلف.. يشبه المسرة، أو غوايات التفتيش عنها.
والجنوب الفرنسي هو السحر، جغرافيا محكمة التكوين والمعنى، بليغة، ممتعة، وقادرة على التحول إلى مرآة روح عظيمة لزائر مثلي، فأنا الابن السابق لأمكنة مثل هذه البليغة والممتعة، هذه التي يصنعها البحر وتحفظها الشمس.
حين تترك باريس طواعية، كما فعلت أنا بعد زيارة أيام قليلة قبل ربع قرن لها، فأنت موعود بأمكنة تضاهيها جمالاً وقد تفوقها.. وما هي تلك الأمكنة التي تتفوق على باريس جمالاً ولذة؟ وكيف تكون إن لم تكن جنوبية تطل على البحر، وليس أي بحر، بل ذاك المتوسط الباذخ والبديع؟ «ساناري سور مير»، هذا هو اسمها، ساناري المطلة على البحر حين تترجم الاسم إلى العربية. وهي تطل على كل شيء تشتهيه النفس وليس البحر، فحسب الجبال الواطئة المحيطة بالمدينة.. هل هي مدينة أم قرية توسعت؟ الأبنية التاريخية المتناغمة معمارياً مع الحديثة، المقاهي والمطاعم المتناثرة بين أزقتها وشوارعها، أو تلك المتراصة بعناية قرب بحرها، والشمس الواضحة وغير المترددة، عكس تلك الخجولة والمتمنعة التي أعرفها جيداً في قلب القارة الرمادي. وساناري صغيرة، مثل شامة لافتة في عنق فتاة ناصعة البياض، ولعل هذا الوصف يليق جمالياً بها، فهي ليست أكثر من محطة بحرية على الطريق الساحلية الرابطة ما بين إيطاليا وإسبانيا، ولا تحتل مساحة جغرافية كبيرة من الجنوب الشرقي لفرنسا. هي بالكاد تُرى في خريطة البلاد، وهي لا تلعب أدواراً اقتصادية أو تاريخية مهمة مثل مارسيليا القريبة، أو تولون، جارتها الكبرى والشهيرة.
هي مثل الشامة في العنق الأبيض، صغيرة، ولكنها جاذبة. تأسست ساناري سور مير في أواسط القرن السادس عشر قرية صيادين، وحافظت مذاك على هذا الدور الوظيفي المناط بها: قرية يعمل جل سكانها في صيد الأسماك وبناء القوارب الخشبية الخاصة بالصيد، وهي عبارة عن قوارب صغيرة لا يتسع الواحد منها لأكثر من ثلاثة صيادين معاً، وهي جميلة الألوان والتصميم ومتقنة البناء وذات مرتبة متفوقة في الصناعة المحلية حولتها إلى مصدر اقتصادي أساسي، فقوارب ساناري مطلوبة على امتداد الساحل الأوروبي وذات الصيت هناك، إلى جانب مركزية حضورها في المشهد اليومي الذي يتشكل منه المكان. حين تصحو مبكراً في ساناري، وعليك أن تفعل، فأنت على موعد فاتن مع مهرجان يومي تتألف منه القوارب الملونة المتراصة صباحاً إلى جانب بعضها بعضا على امتداد شاطئها، استعداداً لرحلات الصيد الصباحية، أو تلك التي عادت لتوها من رحلات ليلية طويلة، معلنة من هناك عن انطلاق سوق السمك وحفلات الشواء الكبيرة لثمار البحر المتنوعة والغريبة.
ساناري هي حفلة شواء يومية عظيمة..
مهرجان قوارب خشبية مزركشة بألوان الصيف وروائح البشر، وهي النسوة الكاشفات بسخاء لافت عن مفاتن الأجساد الملقاة بلا اكتراث فوق رمال الشاطئ.. هذا كل ما يمكن للزائر أن يعثر عليه في ساناري، أو هكذا اعتقدت، لم يكن لديّ الكثير من المعلومات السابقة غير تلك المتداولة عن ساناري: محطة ساحلية تنام وتصحو على إيقاع البحر وما تقترحه الشمس من طقوس، وهذا يكفي، ولهذا مررت بها لأقضي يوماً واحداً فيها، بحثاً عن الشمس والبحر، أعمدة الفردوس الأولى، فماذا يمكن للفردوس أن تقدم أكثر من فتنة البحر ونداء الشمس. ولم أكن أنتظر وأنا أترك البحر باتجاه الجانب العتيق من المدينة، ما سأعثر عليه هناك، فوق الحائط الأمامي لبناية «المكتب السياحي لمدينة ساناري» المزدان بلوحة رخامية بيضاء تعلن عن تكريمها «لهؤلاء الكتاب الألمان والنمساويين وعائلاتهم وأصدقائهم الذين عاشوا في ساناري سور مير هرباً من النازية سنوات سطوتها»، وهم: بيرتولت بريخت. فيرديناند بروكنر. ليون فيوختفاغنر. برونو فرانك. فرانز هيسل. هيرمان كيستن. أيغون كيش. أريكا مان. غولو مان. كلاوس مان. توماس مان. لودفيك ماركوس. يوسف روث. فرانز فيرفل. كورت فولف. ثيودور فولف. أرنولد سفايك. شتيفان سفايك.

كان ماركوس من أوائل من حطوا رحالهم في ساناري، سوف يتبعه فيرفل وبريخت، ثم عائلة توماس مان، لتكتمل من هناك الدائرة وتبدأ حقبة تاريخية لافتة في تاريخ المدينة المتوسطية التي تعتز الآن بذلك الحضور الثقافي الرفيع وتحتفي على الدوام به .

وغيرهم ممن لا يقل حضورهم الثقافي والأدبي قيمة عن توماس مان وسفايك وبريخت وفيرفل وروث، ولا يتسع المجال هنا لتعدادهم للأسف. هذه جنة كتاب أيضاً، قلت لنفسي وأنا أتأمل اللوحة الرخامية، بل هي الجنة إلتي ضمت الكتاب الأكثر أهمية وحضوراً في اللغة الألمانية آنذاك، وعليّ بالتالي أن أؤجل سفري احتراماً لهم وبحثاً عنهم.
أمضيت ثلاثة أيام أخرى في ساناري، تحت الشمس والرغبة الهادرة باكتشاف ما تركوه أولئك من أثر في المكان الشهي: البيوت التي سكنوها، زرت بعضها، المقاهي التي ترددوا عليها، عدت مرات إليها، ثم غادرت عائداً إلى فيينا لأقرأ الكثيرعن الظروف والأسباب التي دفعت بمثل تلك النخبة نحو ساناري سور مير واختيارها دون غيرها للعيش والكتابة بعيداً عن ظلام ألمانيا الحالك وقتها.
بدأت الحكاية مع صعود نجم الحزب الاشتراكي الوطني (النازي) وبداية انتشاره وبسط نفوذه الشعبي أواسط عام 1930 في ألمانيا، قبل استلامه السلطة رسمياً في يناير/كانون الثاني 1933 وإعلانه الحرب المفتوحة ضد الثقافة المتناقضة مع رؤاه، وضد أصحابها، بلا استثناء، فالثقافة هي مصدر الخطر الأكبر، والكلام ليوسف غوبلز، وكان عليها، أمام المحاولات المتوحشة لقتلها، أو تدجينها على الأقل، وحفاظاً على قيمتها وجدواها، أن تهاجر.. فهاجرت، ولكن، لماذا اختار أولئك ساناري تحديداً؟ نجد الإجابة عن هذا السؤال في مقالة ممتعة للكاتب لوديفك ماركوس، يقول: «كنا نبحث عن مكان بعيد عن ألمانيا وقريب منها كذلك، فكانت ساناري، وهي مثل الجنة، تكتب وتحلم على هواك فيها.. كنا نعيش عكس رغباتنا في الجنة». بعيداً عن الظلام النازي وعلى مقربة نسبية من المكان الأم، فالظلام عابر والمكان باق. بهذا المعنى يمكن قراءة كلمات ماركوس، وهو دقيق. وكان ماركوس من أوائل من حطوا رحالهم في ساناري، سوف يتبعه فيرفل وبريخت، ثم عائلة توماس مان، لتكتمل من هناك الدائرة وتبدأ حقبة تاريخية لافتة في تاريخ المدينة المتوسطية التي تعتز الآن بذلك الحضور الثقافي الرفيع وتحتفي على الدوام به .
تجمع الكتاب هناك، أبدعوا الروايات والمسرحيات والشعر والأبحاث وحاربوا النازية عبر أعمالهم وبلا تردد، وكانت فرنسا مرحبة وسعيدة بتلك الثلة التي أولتها الكثير من الرعاية والاهتمام.. مرحبة وسعيدة بضيوفها الكبار، ولكن الأحوال تبدلت بعد حين!
في خطوة غرائبية لا يبررها المنطق ولا تشرعنها الوقائع، أقدمت فرنسا الرسمية، إثر إعلان الحرب ضد ألمانيا عام 1939، على وضع ضيوفها الكتاب في خانة «الأعداء الألمان»! وسارعت إلى احتجاز البعض منهم في معسكرات اعتقال كبيرة! كما أمرت البعض الآخر بمغادرة أراضيها، وعلى الفور! فغادر البعض منهم واعتقل البعض!
حدث كل ذاك قبل وقوع العديد من المطارح الفرنسية في قبضة الاحتلال الألماني، مايو/أيار 1940، علماً بأن ساناري سور مير لم تكن من ضمنها، ثم اشتدت القرارات ضد الكتاب عنفاً وقسوة سنوات الاحتلال! تفرق الكتاب الألمان والنمساويون من جديد، بعضهم ذهب إلى خلف المحيط، بعيداً عن المكان الأم، إلى الصين وروسيا.. أو فلسطين، كما في حالة الروائي أرنولد سفايك الذي هاجر إليها، بما هو يهودي، ثم غادرها بعد سنوات قليلة وتحول إلى ناقد سليط اللسان ضد مشروع الاحتلال الإسرائيلي برمته.
ساناري هي الجنة، هي المتوسط وهو يبدع واحدة من حواضره الأجمل، وهي الوطن المؤقت لحفنة من الكتاب الأهم في الأدب الألماني، ولكنها جنة تتحول لحظة يمسها الاستبداد بناره إلى جحيم فعلي، وقد فعل، ولعل التجربة المذكورة التي تمثلها المدينة هي دلالة بليغة على أن الجنان لا تكون ولا تكتمل في ظل الاستبداد، الاستبداد النازي الذي قاد إلى إنتاج استبداد فرنسي مقابل آنذاك. «الحرية هي الجنة»، يكتب لودفيك ماركوس في مذكراته، وساناري، مذ سقوط النازية عام 1945، هي صورة فاتنة للحرية: مدينة ساحلية صغيرة تطل على الكون من باب البحر.. هذا البحر لا سواه، المتوسط، حيث تحيلك كل قطرة ماء فيه إلى أمكنة قريبة بعيدة ولا تقل جمالا وفتنة عن هذه الفرنسية، ولكنها، من سوء حظ الروح، سجينة في كهوف الاستبداد.

٭ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منال:

    مقال أكثر من رائع ابداع حقيقي

إشترك في قائمتنا البريدية