يمتزج لدى السوريين شعوران حالياً: يتركز أحدهما في أوساط المهجرين المنكوبين المشردين، ويقوم على أن رأس النظام السوري يهتز بعنف، وقد يذهب قريباً أو في المدى المتوسط؛ وثانيهما بين المقيمين، بغض النظر عن موقفهم من النظام، يكاد عَوَزُهم وحاجتهم يخنقانهم، ولم يعودوا يطيقون صبراً على حياتهم التي تشمل كل الشعب السوري، تحت خط الفقر، وفي حالة قريبة من العجز الكامل.
لم يأت الإحساس باقتراب مصير الأسد من فراغ، بل مما أصبح علنياً من ضياع وتشتت مثبتاته الخارجية والداخلية. ولا يأتي إحساس الطاغية بالخلود من عدم، بل من إمساكه بمفاصل وروابط تتعلق بحمايته من الأخطار الخارجية عن طريق الجيش والتحالفات الإقليمية والدولية، ومن الأخطار الداخلية عن طريق قوى الأمن، وضمانه لدائرة متينة من الداعمين والمحاسيب والإداريين، عن طريق الرشوة والإفساد، وتقديم فرص الاستثمار بشروط خاصة ومحمية. وهذه كلها، مع بعض الإبداع في التنوع والتطوير، كانت من مواهب الأسد الأب، التي ورثها الابن من دون الموهبة ذاتها، وأجرى عليها عملية» تحديث» فاشلة.
وفي البداية هنا، لا بد من ذكر أنه في حين لم يكن ممكناً للثورة عام 2011 أن تنجح بسلاسة ويسر، ما لم تترافق مع فشل قاطعٍ النظام، فإن الأخير يفشل حالياً على جميع جبهاته، من دون أن تكون هنالك حركة شعبية وسياسية منظمة قادرة على أن تكون البديل المقنع له. لذلك يبدو أن التغيير المحتمل في هذه المرحلة سوف ينحصر في رأس النظام، أو بعض رؤوسه، وليس في النظام ذاته، الذي يتحفظ الكثيرون دولياً على موضوع سقوطه، على الأقل في هذه المرحلة. ولطالما اعتمد النظام وداعموه على مقولة، إن مفاتيح استحواذ الطاغية على السلطة، ليست مفاتيح الاستمرار فيها ذاتها، ما لم ترض سلطته نسبةً معقولة من مواقف داخلية وخارجية، أو ما لم يكن أفضل من البديل المحتمل، بالنسبة إلى الجهات التي تشكل تلك المفاتيح، شعباً وسلطةً وقوى خارجية. وقد تجمعت مؤخراً نُذُرٌ ربما تتحول إلى وقائع عاصفة بعد استكمالها، وصل فيها النظام إلى الحضيض، ووصل فيها طاغية الشام إلى حدود نهايته المنطقية.
كان الجيش السوري مثلاً في المرتبة 19 عالمياً على قائمة «غلوبال فاير باور» عام 2005، وتراجع في قائمة هذا العام إلى الرقم 55، بما في ذلك تخلفه عن خمسة جيوش عربية، ومجاورته في التقييم لأنغولا. وهذا مجرد تقييم يأخذ الأرقام المجردة للقوة النارية خصوصاً، بعين الاعتبار، من دون حسابٍ لما هو جامدٌ من تلك القوة، ولا لما هو تحت القيادة الروسية، أو التأثير الإيراني، وكذلك لما تحول منه إلى مجرد ميليشيات، لا تجتمع دائماً على استراتيجية واحدة. وقد أصبحت قدرات النظام النارية بالفعل أقرب إلى مجموعات تابعة لقوى فوقه، أو لعصابات متعددة الولاء تحته.
أما البنية الأمنية الهائلة التي بناها الطاغية الوالد قبيل وبعد استيلائه على السلطة في عام 1970، والتي أصبحت أخطبوطاً ضخماً يضم إلى الأمن السياسي وأمن الدولة أو المخابرات العامة، كلاً من الأمن العسكري وأمن القوى الجوية، وأمن القصر، وعدة مراكز أخرى، تنشغل كلها بالحفاظ على أمن النظام داخلياً، وكانت رأس الحربة في الحرب على ثوار 2011 الشباب. هذه المؤسسات أصبحت قياداتها عموماً طريدة العدالة الدولية، وتحولت كما حصل مع الجيش إلى ميليشيات خاصة، تتبارى في خدمة النظام وتقديم أقصى ما يمكنها من وحشية مع الناس، ومن تجارة حرب ونهب لا تستثني شيئاً، وفي كل مكان تدخله. أصبحت هذه القوى كلها منهكة تخبط خبط عشواء، وتتعرض لتدخلات متنوعة روسية وإيرانية، وهي جاهزة للمزيد من التدهور، أو الخروج عن سيطرة الطاغية نفسه.
وحين يهتز النظام، أي نظام، لن يكون حوله إلا المنتفعون منه ومن استمراره. وهؤلاء تغيرت بنيتهم مراراً في الأعوام الأخيرة، وغلب عليهم طابع جديد مختلف عن السابق، تحولوا فيه إلى تجار حرب من أسوأ النماذج، كما تحول قادة الجيش والأمن إلى أمراء حرب مع غيرهم من قادة الميليشيات التي ملأت البلاد وتم تنظيمها داخلياً، أو استيرادها من الخارج من كل حدبٍ وصوب.
يبدو أن التغيير المحتمل في هذه المرحلة سوف ينحصر في رأس النظام السوري، أو بعض رؤوسه، وليس في النظام ذاته
والظاهرة الأكثر أهمية في الباب الأخير هي تمرد رامي مخلوف سيد الاقتصاد والفساد في البلاد، على رغبة الأسد باستعادة الأموال الطائلة التي استحوذ عليها عن طريق وكيله – ابن خاله- ومؤسساته، ولم يستطع حتى الآن أن يفعل شيئاً، فلجأ إلى قدراته في سلطاته، وصادر شركته الكبرى للاتصالات مباشرة، في حين ما زالت المليارات المخزونة في الخارج بعيدةً عن يده حتى الآن. وها هي الليرة السورية تتابع تدهور قيمتها بشكل دراماتيكي، منذ بداية مسلسل رامي في أوائل ديسمبر الماضي، لتقترب من نسبة الزيادة 500% ، في ترابط لافت قد يتأكد لاحقاً. سوف تكون هذه التجربة ذات تأثير على شكل علاقة الأسد مع شريحة المحاسيب الجدد، الذين يستند بعضهم إلى مساند خارجية وبنى خاصة متحركة. باختصار: لقد انفتق عقد الهيمنة عن طريق شراء الأعوان والعملاء، وخسر النظام شيئاً على هذا الصعيد، سيزيد من حرارة المتغيرات وسرعتها، أراد الأسد أم لم يُرد. لأن شبكة التنفيع التي أقامها كانت تمتح من موارد الاقتصاد، التي شحت كثيراً، والداعمون المستفيدون سوف يتوترون، لأن الطاغية لم يعد مصدراً لثرواتهم، وربما ينفضون من حوله ببطء، أو سرعة، بحسب تطورات الأمور.
لقد كانت هنالك ديكتاتوريات «مستدامة» في الشرق الأوسط، وتلك السورية منها خصوصاً، كانت قد أتقنت عملها إلى حد الكمال، مستفيدة من أن ديمقراطيات العالم الفاعلة لم تكن ذات مصلحة في التغيير الديمقراطي، ما دامت تحصل على الاستقرار المرغوب من قبلها، فتصرفه إلى موارد استقرارٍ للطغيان والاستبداد.
لقد استهلك النظام ورأسه صبرَ داعميه في الخارج بفشله المتكرر، الذي أصبح أصيلاً فيه. فابتدأ تغيرٌ غامض المآلات- إلا أنه مؤكد- من جهة روسيا الاتحادية، التي يبدو أن الأسد لم يعد بضاعة رابحة بالنسبة إليها، فتحولت إلى تثبيت ما استحوذت عليه، وتسجيل ملكيته، وضمان استدامته بالقانون الدولي والقدرات العسكرية والمادية مباشرة على الأرض. وربما يؤثر في هذا الأمر دخولُ مشروع إعادة الإعمار الروسي في طورٍ صعب وخانق، عن طريق عقوبات «قانون قيصر» الذي يربطها بعملية سياسية جدية، بحيث لم يعد من كرةٍ في يد بوتين إلا مشروع الحل الموازي المعتمد على استحقاق الانتخابات في العام المقبل، الذي سقط بشار الأسد أيضاً في امتحاناته التحضيرية.
إضافةً إلى مشروع قيصر، الذي ربما يعجل دخوله في حقل التنفيذ هذا الشهر بمصير الأسد من دون نظامه؛ هنالك حملة العدالة الدولية المتعددة الوجوه، التي تحاصر أيضاً مصائر الديكتاتور وحظوظه، وتسد عليه المنافذ إلى المستقبل. كل ذلك يجعل من التدهور الداخلي عاملاً حاسماً في تلك المصائر. وهناك عاملان يبعثان على الأسى، ويدفعان باتجاه التحرك من قبل السوريين جميعاً: أولهما ما يمكن لهذه التطورات أن تخلقه من حالة عجز إضافي، وصعوبات حياة يومية لأولئك الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، وهذا ما ينبغي لكل معارضيه أن يتنبهوا إليه ويواجهوه بموضوعية وروح وطنية شاملة؛ وثانيهما حالة الضعف القاتل في العمل المعارض المنظم الرسمي، التي تجعل ممن يجلس على مقاعد تمثيل السوريين حالياً، في أي عملية سياسية، مجرد خيالات واهية لا دور حقيقي لها ولا فاعلية. وحتى لو كان مصير الأسد قد لاح في المدى القريب أو المتوسط، فإن مصير النظام بذاته ما زال مجمداً، والدولة والمجتمع السوريان كلاهما قد تهشما إلى مستوى سيتطلب طريقاً طويلاً، والطاغية بذاته هو العقبة الأولى، ونهاية صفحته الصفراء هي الخطوة الأولى.
كاتب سوري
التغيير بات ملحا جدا مع جائحة الجوع التي بدأت تجتاح الشعب السوري