فشلت القوى السياسية المصرية في قراءة المعطيات على الساحة المحلية، في الأشهر التي أتبعت حريق القاهرة في مطلع سنة 1952، ولعلها كانت تعتقد أن سلوك الملك فاروق المتوتر في هذه المرحلة سيمنحها فرصة تاريخية من أجل السيطرة على الأمور ودفعه إلى خلفية المشهد، كما نجحت في ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن فرق التوقيت الذي اعتمدت عليه هذه القوى لم يكن حاسماً كالذي صنعه الضابط يوسف صديق، عندما تحرك قبل ساعة كاملة من الموعد الذي كان محدداً للتحرك العسكري في ليلة الثالث والعشرين من يوليو 1952، وكان لذلك دوره في إجهاض التحركات المضادة التي حاولت احتواء الحركة.
لم يكن مصطلح الثورة وارداً لدى الضباط الأحرار، وتخيروا بدايةً تسمية الحركة المباركة، ومع الوقت، تكشفت الأمور للعسكريين الشباب الذين بدأوا في التواصل بعد الهزيمة في حرب فلسطين 1948، فكانوا يطلقون النار على حصان ميت، نظام هش كان منذ زمن آيل للسقوط، وكتلة نخبوية إما متحالفة معه، أو مستهلكة في شؤونها الخاصة، وبعد الاستقبال الشعبي المتحمس للتغيير الذي أتى من معسكرات الجيش وبوجوه سمراء قريبة من ألوانهم ومختلفة عن الوجوه التقليدية لباشوات مصر.
كان الضباط الأحرار شأن بقية المصريين، غاضبين من النظام، وكانت أهدافهم مثل القضاء على الاستعمار والإقطاع والفساد وتأسيس العدالة الاجتماعية
واجهت حركة الضباط الفراغ الذي لم يكن يزاحمهم خلاله سوى حركة الإخوان المسلمين، التي تحركت في فضاءات الشعور الديني للمصريين، في وقت كان الجهل يتحالف مع المرض والفقر بين جموع المصريين، ويمكن أن ندفع بالأرقام التي أوردتها الباحثة آية سمير غريب أمام المتباكين على مصر الملكية، وحسرتهم على الشوارع التي كانت أنظف من أوروبا، ففي كتابها «الأمية في مصر» تذكر غريب أن مصابي الرمد الحبيبي سنة 1950 وصل إلى نسبة 90% من المصريين، وكان ثلاثة أرباعهم مصابون بالبلهارسيا، ونحو النصف بفقر الدم، وكانت وفيات الأطفال في مصر الأعلى على مستوى العالم. من التعسف القول أن الأحزاب الوطنية المصرية لم تكن تحاول أن تحقق منجزات قبل الثورة، ولكنها فشلت أمام يمين متغطرس، كان يتذرع بقلة الموارد المالية وبعدم الحاجة إلى تعليم الفلاحين، الذين يشكلون القوة العاملة الرئيسية في قطاع الزراعة، ولذلك فما حققته الحركة المباركة أو الانقلاب العسكري، على مستوى العناية بالفرد المصري وبناء الطبقة الوسطى، كان يبرر ظهور ووجود مصطلح الثورة خلال سنوات معدودة، إلا أن الثورات في العالم بأسره تتحول إلى كائنات متوحشة، لأنها تشتمل على حراك اجتماعي يولد نفسه الصراع، ولذلك أبقت الثورة على الصراع داخل المجتمع، ولأن الانهيار كان سريعاً للقوى المنافسة، وتبخرت أحزاب مثل الوفد والسعديين، وتراجعت الحركة الإسلامية أمام وجود مشروع أيديولوجي منافس، فكان الطبيعي أن تستدعي الثورة أشباحاً لتحاربها، وصفتهم بالخونة والانتهازيين والمتخاذلين، وهي المصطلحات التي تطورت إلى عناصر دخيلة تحمل أجندات خارجية.
كان الضباط الأحرار شأن بقية المصريين، غاضبين من النظام، وكانت أهدافهم مثل القضاء على الاستعمار والإقطاع والفساد وتأسيس العدالة الاجتماعية، تعبر عن طموحات عمومية، وفقط تغيب عنهم الطريق، وبعد إحداثهم القطيعة مع بنى الدولة السابقة على الثورة، ووصفها بالطغمة الفاسدة وتوظيفها لفترة وجيزة في قائمة الأشباح والأعداء، كان عليهم إعادة اختراع العجلة من جديد، وفي وسط التجاذبات حول الطريق كانت عملية تصفية واسعة تجير الثورة لمصلحة الشخص القوي، الذي استطاع أن يفرض سطوته العاطفية على المصريين، رب الأسرة البسيط بحديثه الصريح الذي يوجهه غاضباً، أو راضياً كأنه يتقصد به شقيقه الأصغر أو ابنه بعد ذلك. جمال عبد الناصر على الرغم من كل ما حمله من رؤية لمصر المستقبل بقي متجاهلاً لحقيقة أنه من منتجات مصر الملكية، بكل ما يحمله من تأهيل معرفي وثقافي، فمصر ما قبل الثورة كانت تتوزع بين طبقات من الموظفين والمهنيين المنعزلين طبقياً وفئوياً داخل المجتمع، لدرجة أن الحياة المدينية في مصر كانت تتوزع بين الأقليات الدينية، خاصة اليهودية، والجاليات الأوروبية والأجنبية، اليونانيين والإيطاليين والسوريين والأرمن. مثل الضباط الأحرار صفوة الطبقة الوسطى المصرية، التي ظهرت بعد ثورة 1919 وبقيت تتلمس خطاها على هامش الحياة التي تقع تحت، مثلت صراعاً وقتها بين النخبة وبعض الخوارج على هوامش المجتمع، وكان من ضمنهم الشيوعيون والليبراليون، وبتحليل الخلفيات الأسرية للضباط المشاركين في الثورة، فجميعهم ينتمون تقريباً إلى أسر محافظة، لم تكن مشتغلة بالشأن العام، وبقيت تؤدي وظائفها الاجتماعية والاقتصادية بإخلاص وهدوء وبتعبير آخر، تمشي بجانب الحائط، ومن غير توافر هذه الشروط لم يكن ليقبل أبناء رجال مثل عبد الناصر حسين في الكلية الحربية، وبقي الضباط في معظم مسيرتهم مرتهنين لصورة قياسية للمجتمع، وضمنياً كانت العدالة الاجتماعية أن ينتهي الثراء المفرط، وأن يصعد الفقراء إلى الظروف التي أنتجت جيل الضباط الأحرار، أي أن يصبح الجميع مثلهم، وبعد أن تكدست هذه الفكرة في اللاوعي الجمعي لهم، أصبحت تستولي على جمال عبد الناصر، الذي تطلع لأن يصبح الجميع مثله، ولذلك أخذت الحلقة تضيق عليه مع الوقت وتتزايد وحدته وهمومه. هذه قناعة وجدت مكانها في اللاوعي وأخذت تتغذى في مصر وتقول بالنموذج القياسي، الذي يؤمن بالأفكار نفسها ويعتنق مبادئ واحدة ويرددها حتى تتجذر في وعيه وسلوكه، ووجد عبد الناصر الأدوات التي يمكنها أن تترجم ذلك، وتمكن هيكل من توظيف الإعلام المصري في سلوك التحشيد المستمر والدائم ليكون أكثر استدامة من غوبلز، وربما أكثر ذكاءً.
لم يتخلص عبد الناصر من رفاقه، فهو في الحقيقة كان يحبهم ولذلك أقصاهم، ومن أوائل المستبعدين كان يوسف صديق بطل الثورة الميداني والفارق، وببساطة، كان عبد الناصر غير مؤهل للإجابة على طروحاتهم ولا أسئلتهم، أما الذين كانوا يتطاولون ليختبروا خياراته، ويعملوا على مجادلتها فكان يصم أذنيه عن أصواتهم وصرخاتهم في معتقلات شمس بدران وحمزة البسيوني وغيرهم من أدوات كانت تتكفل بإبقاء الزعيم مرتاح الضمير، ومحتفظاً بصورته الأبوية التي حلت في مصر مكان صورة الإله الفرعونية، وما زالت تتحكم في وجودهم وتسيطر عليه. سبعون عاماً مرت على تلك الليلة، التي كان لفرق ساعة في التوقيت أن ينقذها لتؤسس إلى فرق توقيت وصل إلى عقود من الزمن، لم تتمكن مصر خلالها من الوصول إلى الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية.
كاتب أردني
70عاما على الضياع والتيه والتخبط والانتحار البطيئ…70عاما من الضلال والظلام العسكري
أعتقد أنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان. من السهل الآن أن ننتقد استناداً إلى مُثل الديمقراطية والحرية، وهي حتى الآن مُثلاً أكثر منها واقعاً. فلو نظرنا إلى هذه المثل في الولايات المتحدة، لتبين لنا أنها شعارات أكثر منها حقيقة. تعتقد نسبة كبيرة من الأمريكيين، إن لم يكن معظمهم، أنهم يتمتعون بالحرية والديمقراطية. لأنهم يرون مكياج العروس ولا يرون وجهها الحقيقي. مثلاً، إنهم لا يعرفون أن لا مكان لأي شخص يعتنق أو يؤيد الشيوعية أو الاشتراكية. إنهم لا يعرفون أنه لا يمكن لأي مهاجر إلى الولايات المتحدة أن يحصل على الجنسية إذا استشفت السلطات أنه يميل (لا أقول يعتنق) إلى الشيوعية أو الاشتراكية. وهناك أمور كثيرة لا أقلها سلاح حسن السلوك (security Clearance) الذي يحتاجه كل من يريد شغل وظيفة محترمة في مؤسسة حكومية أو متعاقدة مع الحكومة. أنصح من لا يزال يظن أن هذه المثل مطبقة فعلا في الولايات المتحدة أن يحاول الاطلاع على الدستور الذي وضعته الولايات المتحدة للعراق أيام بريمر.
الحقيقة هي أن ثورة / انقلاب سنة 1952 انتهى بوفاة جمال عبد الناصر في شتتبر 1970. رغم الطموحات المستهدفة و النوايا الحسنة و إنجاز السد العالي تظل سلبيات المرحلة كبيرة : دكتاتورية النظام العسكري و الزج بقوى اليسار و الشيوعيين و الاخوان في السجون و استغلال حملات التطهير في خمسينات القرن الماضي لاقصاء الكفاءات و الأبرياء و هيمنة العسكر على جميع القطاعات بما فيها الصناعة والتجارة والإصلاح الزراعي و الثقافة و الرياضة والإعلام ( كانت بعض اللجان الثقافية يحضر فيها توفيق الحكيم و نجيب محفوظ و يرأسها ضابط صغير و نفس الأمر في الرياضة حيث الضابط محمود الجوهري و في السينما حيث أحمد مظهر على سبيل المثال مع توظيف نجمات السينما لخدمة المخابرات مثل سعاد حسني و برلنتي عبد الحميد….) خنق حرية الأفراد عبر مخابرات شمس بدران و توجيه الإعلام بتوظيف محمد حسنين هيكل مع اعتقال الأخوين مصطفى و علي أمين بتهم واهية و ترك الحبل على الغارب للضباط و المسؤولين الفاسدين في المصانع المؤممة. الكارثة الكبرى هي التمشدق بالشعارات الرنانة من قبيل من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر لبيك عبد الناصر و المسؤولية المباشرة عن هزيمة حزيران 67 .