سبيل الشعر
في طريق سريع، يخترق برّية نائية، كنتُ. لا أعرف كيف تواجدتُ هناك؟ كان الوقتُ لحظةً مُحيّرَة بين الليل ومشارف الفجر.. تقترب شاحنة، تتوقف، ينزل رجل منها، يحمل كتاباً سميكاً، تبيّنتُ لاحقاً انه كتاب انطولوجي للشعر. يتلو عليّ جُمَلاً، مدارها.. النجم، الريح. ثمة جملة واضحة، بقيتْ تتردّد: كنجم تتجاذبه الريح. هي ليست لأحد. (أهكذا يكون طريق الشعر؟) لم أتعرّف على الشاعر الذي نَسبَ الغريبُ الكلمات إليه، رغم انه لوّح بِاسمه ذي الوقع الأجنبي. سألني، لكنه لم ينتظر الإجابة. أغلق الكتاب واستقلّ شاحنته ومضى. ابتعدتُ بدوري وأخذتُ أردّد ما أحفظ من كلمات تُشبه الشعر في طريق، قفر، منعزل. لم أسأل إن كان يسمعني أحد، وما بدا الأمر يهمّ أحداً في ذلك الطريق السريع، وكان يطلُّ سالكوه، خطفاً، بين آنٍ وآخر، من نوافذ سياراتهم، على رجل وحيد غريب، في مكان غريب، بدا أنه يكلّم نفسه، مكشوفاً بضوء الفجر. (أذلك هو سبيل الشعر؟).
بين بغداديا وديوانيا
حتى الآن وبعد مرور نحو ثلاثة عقود، لا يمكن لي أن أُخطئ في استعادة تلك الرائحة النفاذة النبيلة المنعشة الخفيفة كحضورِ معشوقةٍ. لم يكن عطراً معهوداً، كتلك العطور المتشابهة ـ وإن غَلتْ ـ بل رائحة خاصة، تنضم إلى أمارات طهر ونظافة أيضاً، وهو ما بدت عليه المرأتان الرصينتان المتنعّمتان وأوحيَتا لي به، في ذلك النهار الرائق كلوح زجاج لم تكدره ذرة غبار واحدة، عند مشارف وصولي إلى «ديوانيا». أُمٌّ وابنتها، كما بدتا لي. شابة جميلة في تمام نضارة ورقة جديدة لشجرة فتية، اقترنت لديّ بنضح ماء وحركة مكتومة لأساورَ وابتسامة مضيئة كبرهان على أنّ الخلود ليس سوى وعدٍ بالجمال. كم من الوجوه، كم من الجمال العذْب المعذِّب رأى القلبُ بدمه المشظّى وعينيّ هاتين، غير أن هذا الوجه، الجسد الملتف بعباءة، وذلك العطر النبيل النادر، لم تجفّ منه ذاكرةُ شغَفي الهائمة في حقولٍ فلحتها خطواتُ الأنوثة. ينبثق الوجه في لحظات غير محسوبة، أو منتظَرة، بعد كل تلك الساعات والأيام والمسافات والسنوات، من بين وجوه قليلة محفورة عميقاً في ألواح التوق، كغراس مورق، أبداً، كما وجه تلك المسافرة من «سامافا»، التي صادفتها في رحلة من «بغداديا» إلى «ديوانيا»، أيضاً، وقد ظهر هذا الوجه، لاستثنائيته، ككل وجه جميل، في نص «عذوبة جانبية لوردة عابرة» في ثمانينيات تلك الأيام! المصادفة العجيبة أو هو ضرب من القدر أنّ المرأة العطِرة مدار هذه الكلمات التقيتها أيضاً في سيارة، خلال رحلتي المعتادة بين المدينتين الأسطوريّتين. لم تكن هناك من كلمات بيننا، فلا سبيل إلى ذلك، قط. ثمة ألف جدار وجدار، وإنْ من هواء. ومثلما كان من قبل، فالهواء وحده هو الآن من يُدير جمرَ الكلام في أوردة مغموسة بحبر قابل للاشتعال.
النهر والسراب
كلُّ حياتي كانت نِشداناً لنهر.. قطعتُ أمكنةً لا عدّ لها، كلّها كانت تخلو من الأنهار والظلال. لكن أخيراً وما أن لاحَ ليَ النهر، حتى جاوزتهُ وقفزتُ إلى السراب.
مدينة عائدة من الطوفان
وبعد أن انحسرتِ المياهُ عن المدينة الغريقة
بدا كلّ شيءٍ، مكسوّاً بالملح،
تكفيراً لما فسد منها في حياتها،
حتى القبور كانت مكسوةً بالملح
أودَعَ سكانُ المدينة الغريقة البحرَ، أحلامهم، رسائلَ أبدية
رسائل لا تعرف الضفاف
مكتوبة بتوسّلات الموج
مُهِرت بخاتم النسيان.
لم يكنِ الغريب قد عرف بنبأ مدينته، فعاد
أوّل ما لاح له منها نُصبُ الملح
فظنّ ان مدينته قد مُسِختْ.
وحين تبيّن حقيقة ما حدث
قال في سرّه وما الفرق بين أن تُمسخ أو تَغرق
أخذ يُفتّش عن القواقع التي حملها البحرُ المنصرف عن مدينته
علّه يجد رسالةً ما.
فقط، الصفيرُ كان يعصفُ بكلّ شيء..
قال هذه هي الرسالة الوحيدة التي يمكن لمدينة عادت من الطوفان أن تتركها.
ومضى في طلب مدينة أُخرى غير قابلة للغرق.
٭ شاعر عراقي