شتاء 2020
كنت أستمع لأبي في الشتاءات الجافة في ثمانينيات القرن العشرين وأنا مفعم باندفاع الشباب العارم ومشبع بفكرة التقدم «التاريخ يمشي بشكل خطي إلى الأمام، فالغد بشكل آلي أفضل من اليوم». كان يحدثنا عن شتاءات بعيدة، كان المطر يهطل مدراراً بلا توقف، أستمع له وابتسم في سري ساخراً وأنا أردد بيني وبين نفسي هذا حديث عجائز، أيها العجوز لقد وقعت في فخ الذاكرة، حيث يبدوكل شيء في الماضي أجمل، أحلى، أكثر خيراً، و..
بعد رحيله بسنوات وقعت بين يدي شهادات ودراسات عن مناخ بلاد الشام في النصف الأول للقرن العشرين، اكتشفت بدهشة أن ما كان يقوله أبي لم يكن نتاج خيال عجوز، وقع في فخ الذاكرة، بل كان حقيقياً. كانت هناك شتاءات قاسية وأمطار غزيرة قبل أن يميل مناخ بلاد الشام نحو الجفاف والتصحر منذ خمسينيات القرن العشرين. في هذا الشتاء القاسي البارد، حيث المطر لا ينقطع، وحيث فاضت الأنهار وامتلأت السدود باكراً، خطر لي أن أحدث أولادي عن تلك الشتاءات الجافة، التي عشناها في ثمانينيات القرن العشرين. لكنني أحجمت قلت لنفسي: ليسوا بحاجة لذكريات سيئة. وتذكرت ذكريات أبي عن تلك الشتاءات الباردة القاسية، حيث المطر لا ينقطع. أتقمص ذاكرة أبي، فأحدث غيثا وكنان عن تلك الشتاءات المثلجة الباردة وأمسح من ذاكرتي جفاف الثمانينيات.
انقطاع تاريخي
في تسعينيات القرن العشرين وهم يجرفون التربة لأجل إقامة سد لتخزين المياه جنوب شرق قلعة المضيق، أفاميا، عثروا على بقايا سد من الحقب القديمة كان يستخدم للوظيفة نفسها. استعنا بأصحاب «نظرية التقدم» لتفسير هذا الأمر فأمدونا بملحق سموه «الانقطاع التاريخي». ثم استعانوا بكتابات كبيرهم الذي اخترع نظرية «التطور الحلزوني» التي تجعل عودة التاريخ المحسوسة إلى الخلف مجرد عملية خداع بصري، إذ يقول صحيح أن التاريخ عاد إلى النقطة نفسها، لكنه ارتقى درجة إلى الأعلى، أو بمقولة أن التاريخ يمشي بطريقة «خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين للأمام». أبديت اقتناعاً على مضض..
كنت بحاجة لمزيد من الوقت لأرى بأم عيني أن التاريخ طريق بمسربين أحدهما يسير بك إلى الأمام، أما الثاني فيعود بك إلى الوراء. وها أنا أشاهد البشرية بأكملها تحتشد بالمسرب الثاني.
3- معلومة طبية
تستعيد جروح الجلد 5% من عافيتها بعد أسبوع، 20% بعد ثلاثة أسابيع، و70% بعد سنة. لكن الجروح لا تلتئم 100% قط. تبقى آثار الندبة أبد الدهر. هذا عن جروح الجلد. فماذا عن جروح الروح والقلب..
انقراض بالأجسام أو بالأرواح
يقول عبد الرحمن الشهبندر معلقاً على المصير المطروح من الغرب على عرب بلاد الشام والعراق، في بداية القرن، أنه إما «انقراض بالأجسام أو بالأرواح» ويتابع «ولقد حادثني السير مارك سايكس سنة 1917 في القاهرة، وهو واضع معاهدة سايكس بيكو، ليقنعني بضرورة احتلال العراق وسوريا، ليتعلم ساكنوها المدنية الحديثة والحضارة القائمة فقلت وإذا لم يقبلوا هذه الحضارة بالعنف والشدة وعلى الرغم عنهم؟ فقال فما عليهم إلا أن يخرجوا من ديارهم إلى الصحراء، وطنهم القديم».
حبة حنطة
في زمان صار من الماضي البعيد، كنت أجلس ساعات طويلة مع الشاعر المبدع، الذي لبس طاقية الإخفاء، وديع. قال:
– الوضع هنا ليس كما قال محمود درويش «وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل».
طلبت منه توضيحاً، فتابع شارحاً «هناك من اقتلع السنبلة قبل أن تنضج ثم سحقها بقدميه، وبعد ذلك أحضر مطرقة وهرس حباتها حبة حبة، ولم يكتف بذلك، بل رمى الحبات المهروسة تحت مدحلة ضخمة، ثم نثر الطحين/ الرماد في الوادي. قل لي هل هناك أي إمكانية لتنبت السنابل؟
لم أجب على سؤاله مباشرة، لكن بعد أن انتهينا من أول كوب من الشاي في الجلسة التي تمتد ابريقاً كاملاً من الحجم الكبير.. سألته:
ـ من أين نبتت كل هذه السنابل في الوادي إذن؟
كتب وديع:
حياة
أيتها الأسنان
انهشي التفاحة
عضيها بنهم
كليها كما تشائين
لكن لا تسحقي البذور
وديع حبة حنطة تم سحقها 22 عاماً في السجون.
خطوط تماس
سألت المريض من أين ينحدر؟ فأجابني أنه من سكيك، بدا الاسم مألوفاً. تابع المريض إنها قرية صغيرة شرق مدينة مورك الواقعة شمالي مدينة حماة، لكنه نازح يسكن مدينة حماة منذ 2013. تذكرتها كان اسمها يتردد في أخبار المعارك باعتبارها قرية تقع على خط التماس في الحرب الدائرة، حيث يمتد ذلك الخط من غربي مدينة مورك إلى شرقها، لكن منذ عام 2019 بعد أن استرد الجيش تلك المناطق وفتح الطريق الدولي، لم يعد لها أي أهمية، ولم يعد يذكرها أحد بعد أن كانت تتصدر نشرات الأخبار السورية، عندما تحدث معارك على ذلك الخط. تذكرت أيضاً أسماء بعض القرى الأخرى التي كان الناس يتحدثون عنها بشكل يومي، والآن أجد صعوبة في تذكر أسمائها. سألت نفسي من يستخدم الآن طريق خناصر للانتقال من حماة إلى حلب؟ بل ما أهميته اليوم؟ أجبت نفسي أن لا أحد يستخدمه ولا أهمية له إلا لأبناء القرى الواقعة على حواف البادية، وهو الذي كان إغلاقه أو فتحه مسألة حياة أو موت للطرفين، وعليه تتوقف نتيجة معركة حلب.
أفكر أن للحروب منطقا خاصا بها، لا علاقة له بأهمية الأشياء الحقيقية أو حجمها. فقد تكبر أشياء صغيرة حتى تبدو كأنها بحجم الكون، وفي المقابل تصغر أشياء كبيرة، فالمواقع التي على خطوط التماس تكتسب أهمية استثنائية لأن كسب أو خسارة قرية صغيرة على خط التماس يعني كسباً أو خسارة لكامل الحرب. لكن ما إن تتوقف الحرب وتزول خطوط التماس، حتى تعود الأشياء إلى حجمها الحقيقي.
يمكن تعميم هذا الأمر على كثير من الأشياء في حياتنا المعاصرة، ففي سياق تصدي المسلمين للاجتياح الغربي المستمر منذ منتصف القرن التاسع عشر، نشأت خطوط تماس عسكرية – حضارية – ثقافية، ومن نقاط التماس هذه يخطر لي الحجاب فإصرار الغربيين على محوه باعتباره علامة مميزة للمجتمعات الإسلامية «حسب فرانز فانون، إن أول ما تعرف به المجتمعات الإسلامية هو حجاب النساء، فقد يعيش المرء في مجتمع إسلامي عشرات السنين، دون أن يعرف أنهم لا يأكلون لحم الخنزير، لكن خلال دقائق من نزوله إلى الشارع ومشاهدته النساء المحجبات يعرف أنه في مجتمع إسلامي». تحول الحجاب إلى نقطة من نقاط خط التماس في الحرب الدائرة، طرف يريد اجتياحه وطرف يدافع عنه. تضخمت المعركة وكبرت ولم تعد مسألة حجاب، بل صارت عنوان هزيمة أو انتصار. لا أعرف بالضبط ما سيحل برمزية الحجاب عندما تتوقف الحرب وتزول خطوط تماس.
ذات يوم ستزهر بعد يباس
ذات يوم بعيد قال لي أحد شيوخ الصوفية، إنه كلما دب اليباس في غصن من شجرة الحياة أزهر غصن آخر .
كان أبو شفيق مالك أرض في شمال سوريا لم ينجب، فكان يتحسر أمام أصدقائه أنه بعد موته لن يذكره أحد، لكن في مفاجأة غير متوقعة وبعد وفاته بسنوات نشأت نقطة عسكرية في إحدى مزارعه الواقعة في منطقة استراتيجية جداً. أطلق الناس على ذلك الحاجز اسم الرجل الراحل «حاجز أبو شفيق» وعاد ذكر الرجل على ألسنة الناس. يبست شجرة أبو شفيق نسلاً، لكنها أزهرت حاجزاً. هذا احتمال لم يخطر على بال شيخي ولا على بال أبو شفيق!
كاتب سوري