ستموت بعد أسبوعين

حجم الخط
20

هناك أناس يعيشون بيننا وحولنا، قد لا نشعر بهم، نكون مشغولين أو مهمومين في أمور كثيرة، نظنها كبيرة وعظيمة في لحظتها، بينما يكون شاغل البعض مواجهة فكرة الموت التي دقت بابهم فجأة.
صدفة، التقيت زميلا قديما، وبعد سلام وكلام، قال:
لقد وعدني الأطباء بالموت منذ ثلاث سنوات، يعني كان يفترض أن لا نلتقي الآن. أثار فضولي فطلبت توضيحا فقال:
في يوم ما أثناء ممارستي رياضة المشي على شاطئ البحر، شعرت باختناق وتعب، ذهبت إلى طبيب العائلة، وبعد فحص الدم بأيام، أرسلني إلى المستشفى، مكثت في الاستقبال 48 ساعة، أجروا لي خلالها كل الفحوص والصور، ثم نقلوني إلى قسم السرطان، ولحق بي طاقم كبير من الأطباء والمساعدات، أدركت أن وضعي غير مطمئن، أخبرني الطبيب أن السرطان منتشر في النخاع الشوكي بنسبة 95٪ ولوكيميا في الدم بنسبة 25٪، ثم أخبرني بأنني سأعيش خمسة عشر يوما فقط.
شعرت أنني في فيلم أو مسرحية، وانفجرت في الضحك وهم مندهشون، وقلت للطاقم: لماذا خمسة عشر يوما وليست سبعة عشر يوما مثلا؟
خرجوا من الغرفة، وأنا بدأت أحسب! أغلب الظن أن جنازتي ستكون في عصر يوم جمعة، أو ظهر السبت، شعرتُ بارتياح لأنها ستكون في يومَي عطلة للعمال، ولن أربك برامج عمل لأحد من أقربائي. قررت أن أوصي بعدم دفني في الليل، وفقط في النهار. ورغم ذلك، فأنا مؤمن تماما بأن الإنسان لا يعيش أكثر أو أقل من المكتوب له ولا بدقيقة واحدة. مضت ساعات، فكرت خلالها فــي أولادي وزوجتي.
في منتصف الليل طلبت سيارة أجرة إلى المستشفى، ثم توجهت للطبيبة المناوبة وقلت لها، سأخرج لساعة أو ساعتين وأعود، فقالت: الخروج ممنوع وعلى مسؤوليتك؟
ضحكت وقلت لها: وماذا سيجري أكثر من أنني سأموت بعد خمسة عشر يوما؟
وصلتْ سيارة الأجرة، جلست إلى جانب السائق، طلبت منه أن يأخذني إلى شاطئ البحر.
ما ألذّ نسيم البحر! وما أجمل الأضواء والعشاق! نحن لا ندرك قيمة هذه اللحظات الجميلة إلا بعد أن تصبح بعيدة المنال.
طلبت من السائق أن يأخذني إلى مطعم محترم، وعندما سأل مم أعاني؟ قلت له إنني سأموت بعد خمسة عشر يوما، بل وكي أكون دقيقا، بعد أربعة عشر يوما وعشر ساعات.
دخلنا المطعم، أنا والسائق، احتج النادل على ملابس المستشفى، ونادى مدير المطعم، فحكى له سائق السيارة بأنني راحل بعد أقل من خمسة عشر يوما، فما الفرق بين لباس مستشفى وحلة رسمية؟؟
ابتسم مدير المطعم، ورحّب بي، وأعلن أن المائدة على حسابه.
عندما عدنا رفض سائق سيارة الأجرة أن يأخذ أجرته مني، وتمنى أن نلتقي في ظروف أفضل.
في اليوم التالي، أتت زوجتي لزيارتي، قلت لها هيا نذهب إلى الكافيتيريا. في الطريق، وقفت إلى جانب الحمامات وقلت لها: سأخبرك بأمر مزعج، فإذا أحببت البكاء، ادخلي الحمام وابكي في صمت، القصة كيتَ وكيتَ..
قالت: لا تمزح بهذا، لا تُخفني؟
قلت لها: تخافين أو لا تخافين، هذا ما قاله الأطباء، أنتظرك في الكافتيريا.
دخلتُ الكافتيريا وشممت رائحة القهوة والإسبرسو والكعك الساخن، يا سلام.. لم أكن أنتبه لمتعة رائحة القهوة ولذتها بهذه الحساسية، ولا إلى متعة رائحة الخبز المحمص.
لحقتني زوجتي وكان واضحا أنها متأثرة جدا.
نبهتها بأنني لا أريد زيارات، لأنه إذا علم أهل البلد والأقرباء بأنني مودّعٌ، سيقفون بالدور للسلام والقبلات والاحتضان، أعلمي الناس والأقرباء أن من يحبني لا يزورني.
أكره هذا الشعور بالشفقة الذي تبثه العيون والملامح، إنه أكثر فتكا من السرطان.
رغم الحرص، انتشر الخبر بسرعة، فاشترطتُ على كل من يزورني أن يتحدث في السياسة فقط، فما من أحد إلا وله رأي، لا أريد الحديث عن المرض ولا حتى لخمس دقائق، الدقائق الخمس هي مدة طويلة، من يلعب كرة السلّة يعرف قيمة الدقائق الخمس في المباراة.
أحد زملائي من المحامين، وهو ثقيل ظل، سألني: «ماذا تحب أن نكتب على ضريحك»؟
قلت له -مثلما سيكتب على ضريحك- إما «كل نفس ذائقة الموت» أو «كل من عليها فان». الفاتحة.
أخبرني الطبيب المسؤول عني بأنهم سيبدأون معي علاجا كيميائيا مكثفا.
قلت ما ضرورته إذا كان تاريخ وفاتي صار معروفا؟ لا أريده إلا إذا مرت الخمسة عشر يوما المحدّدة.
أشغلت نفسي بالقراءة عن حالتي، قرأت آلاف الصفحات في الإنترنت.
بقي أربعة…ثلاثة…يومان..يوم، اثنتا عشرة ساعة، اقتربت النهاية.
قلت يجب أن يكون مظهري مقبولا في رحيلي كما كان في حياتي، فاستحممت، وحلقت ذقني، وتطيبت، وجمعت أغراضي ورتبت أموري كأنني مسافر إلى رحلة استجمام.
غابت شمس اليوم الخامس عشر، فتحت النافذة، ورحت أتأمل الكواكب، انتصف الليل، قلت يبدو أنني مُنحت حياة لبضع ساعات إضافية.
أشرقت الشمس، أحضرت لي الممرضة دواء مع الفطور، فقلت لها خذيه معك، ما دمت سأموت اليوم.
نزلتُ إلى الكافتيريا، صارت ظهرا ولم أمت، يبدو أنهم أخطأوا الحساب بيوم أو يومين!
غابت الشمس، وأشرقت، ومضى سبعة عشر يوما منذ الوعد. ذهبت إلى الطبيب وتظاهرت بأنني زعلان، قال ما بك زعلان؟؟
قلت أنت كذاب!
-أنا؟!
-نعم، أنت وعدتني بالموت بعد خمسة عشر يوما، وها قد مرت سبعة عشر يوما.
قال سنبدأ بالعلاج الكيميائي المكثف، ولا مجال للتأجيل.
أدخلوه إلى جسدي يوميا وعلى مدار أسبوعين، كنـــت أســـتريح بضع ساعات، وأعود من جــديد، أدخلوا اثني عشرة وجبة من الكيميائي التي يُفترض في حالات أخرى أن تستغرق شهرين.
أخبرني الأطباء أن جسمي كان قويا جدا فتحمّل، ولكن الامتحان الآن لمدة ستة أشهر، خلالها أجروا لي زراعة نخاع شوكي، تمت بنجاح.
في البيت، منعت أحدا من دخول غرفتي، حتى أولادي لم أرهم، زوجتي صارت جارتي، تدخل عندي فقط مع كمامة، تنظف الغرفة وتعقمها، وتحضر لي طعاما حسب توصيتي.
أخبرتني أن بعض النساء حسبن لها متى تنتهي عدّة الزوجة بعد وفاة زوجها.
هناك مقولة طبية تقول إن مريض السرطان إما أن يعيش ستة أشهر بين أحبائه وأهله ويموت، أو أن يعيش منعزلا عنهم لمدة ستة أشهر ثم يعيش. مرت ثلاث سنوات على وعدهم لي بالموت.
في آخر الفحوص رافقتني زوجـــتي، لم يكن الفحص سوى سؤال عادي لزوجتي مع ابتسامــــة: كيف الزلمة؟ فردّت زوجتي بشارة (لايك) بإبهامها، وهي مبتسمة. ردّ الطبيب: هذا هو، رفعت الجلسة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رائدة أبوصوي/القدس:

    قل لن يصيبنا الا ماكتب الله لنا . لو آمنا بالقضاء والقدر حق الايمان وبأن اعمارنا واقدارنا وبان ساعة الولادة وساعة الرحيل لا يمتلك التحكم بها الا من نفخ فيها الروح لأصبحنا اكثر راحة .الحياة والموت والسعادة والشقاء لا يد للانسان فيها كلها اقدار سماوية ولو تجري جري الوحوش غير رزقك لن تحوش . انا اؤمن بالقول
    اعمل لحياتك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً . قصة زميلك اصبحت شائعة هذه الايام . ايام زمان كنا نشاهدها بالأفلام وكنا نعتقد انها من نسج خيال كاتب العمل او المخرج لاثارة مشاعر المشاهدين . اليوم نشاهدها على ارض الواقع .تتحقق بعض الاحيان النبوءات لكن الساعة والدقيقة والثانية من سابع المستحيلات .العامل النفسي يلعب دور كبير في الشفاء

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    أرى‭ ‬المرء‭ ‬فيما‭ ‬يبتغيه‭ ‬كأنما

    مداولة‭ ‬الأيام‭ ‬فيه‭ ‬مبارد

    ويضطرم‭ ‬الجمعان‭ ‬والنقع‭ ‬ثائر

    فيسلم‭ ‬مقدام‭ ‬ويهلك‭ ‬خامد

    ومن‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬بالسيف‭ ‬مات‭ ‬بغيره

    تعددت‭ ‬الأسباب‭ ‬والموت‭ ‬واحد

    فصبراً‭ ‬على‭ ‬ريب‭ ‬الزمان‭ ‬فإنما

    لكم‭ ‬خلقت‭ ‬أهواله‭ ‬والشدائد
    للشاعر العباسي ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬السعدي! كان أبي رحمه الله مريضاً بسرطان البروستاتا, لكنه مات بجلطة دماغية!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول كمال - نيويورك:

    قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

  4. يقول Sahrawi:

    وآلله لقد اضحكتني بأسلوبك الشيق في الحديث عما جرى لصديقك المحظوظ مع أنه لم يقرأ القرآن ولو بعض الصور خلال المدة المحددة .
    ونقول له إن من يتوكل على الله فهو حسبه فالاعمار بيده وليس بيد الأطباء ولو اجتمعو أن يضروه .

  5. يقول أبو اليسر السوري:

    الزميل سهيل، أحب مقالاتك، ولذلك أوجه إليك هذه الملاحظة، وإلى جميع الكتاب: لا وجود لكلمة صُدْفة في اللغة العربية، ولا لجمعها صُدَف، ولا لكل ما اشتقوه منها “محاسن الصدف” “غرائب الصدف” “رب صدفة خير من ألف ميعاد” وغيرها، إنما الصحيح “مصادفة” ونقول “صادفه” أي التقيا دون ترتيب مسبق

  6. يقول هاني كنعان:

    معبره جدا

  7. يقول سوري:

    الطب يخطيء ايضا. والاعمار بيد خالقها. ليتمتع كل واحد منا بالحياة ويتعظ. فنهايتها موت. لكن هناك من لا يتعظ خاصة إذا أجلسوه على كرسي. أو جلس عليه عنوة

  8. يقول Nazeera:

    الحياة والموت بيد الله تعالى ..
    استمتعت جدا بقراءة هذه القصة القصيرة الحقيقية الواقعية ..كثيرا ما تصادفنا قصص كهذه مع الاطباء ..وتقديراتهم ..الا ان الاستسلام من قبل المريض هو بداية النهاية ..ولذلك فهذا الصديق نموذج جميل لهزيمة السرطان الذي يخيف الجميع والاطباء انفسهم ..
    لذلك الخوف والاستسلام هو الموت نفسه ..
    وهذا ما نراه الان في ما يحدث في الصين ..عدم الاستسلام للكورونا هو بشرى خير ..ابتسامات اهل الصين واليابان هي اكبر انتصار للمرض الذي اخاف العالم ولم يحبط اطباء الصين في البحث للانتصار عليه ..
    دمت بخير استاذ سهيل ..الكاتب البارع في تجسيد الواقع بواقعية جميلة ..

  9. يقول Ibrahim Sajrawi:

    شيق جدا… قد يتفكر البعضُ في حياتهم ويستغلونها كأنهم سيموتون غذا… حقيقية أو لا…. ليس هذا هو السؤال… السؤال هو أن نكونَ أو لا نكونا؟ To be or Not to be (screwed

  10. يقول برن:

    بسبب الاعمار بيد الله نحن نبرء الأطباء من الغلط والمحاسبة هادا الرجل عاش لان الطبيب قام بالتشخيص والعلاج وأما من يموت باهمال طبي فلابد من محاسبة الطبيب على الإهمال ثم الاعمار بيد الله سبحانه

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية