ستون رواية… ورؤية!

أعلنت المؤسسة العامة للحي الثقافي في قطر «كتارا» في دورتها التاسعة هذا العام، أسماء المرشحين للفوز في الرواية المنشورة، والرواية غير المنشورة. جرت العادة في المسابقات أن يتم الإعلان عن قائمة طويلة، ثم تتلوها قائمة قصيرة، ثم يتم إعلان الفائزين. وجرت العادة أيضا أن تكون القائمة الطويلة في حدها الأقصى، ستة عشر عملا أدبيا، بينما تكون القائمة القصيرة لستة أعمال. لم يحدث أن ظهرت قائمة طويلة من ستين عملا. ربما تم ذلك لأن الفائزين عادة أكثر من شخص.
لقد بدأت الجائزة بفوز خمسة كتاب، وانتهت الآن إلى ثلاثة، رغم ذلك يظل عدد ستين كاتبا في قائمة مرشحة للفوز في كل مجال أمرا مثيرا للأسئلة. ما الذي جعل لجنة التحكيم لا تتوقف عند عدد سائد وهو ستة عشر كاتبا؟ الإجابات كثيرة، على رأسها أن المتقدمين أعدادهم كثيرة جدا. وهذا حقيقي. أنا لا أعرف الأعداد بالضبط، لكن ربما تجاوزت الألف متقدم. عادة يتقدم إليها من مصر ما يصل إلى خمسمئة عمل، خاصة في فئة الرواية المنشورة، فإذا أضفت ما يتم التقدم به من باقي البلاد العربية، سيتجاوز العدد الألف وربما الألف وخمسمئة. لكن يظل عدد ستين كاتبا مثيرا، ليس من ناحية أعداد الروايات المتقدمة، ولا من ناحية ازدهار فن الرواية وشيوعه الكبير، لكن من ناحية الاختيار. سيثير، بل أثار أسئلة.
ما دام هناك ستون عملا فكيف سيتم من بينها اختيار الثلاثة الأفضل؟ ربما ستكون هناك قائمة أخرى أقصر. وفي هذه الحالة كم ستكون القائمة القصيرة ليتم اختيار ثلاثة منها للفوز. عادة تثار ضجة حول الجوائز حين يتم اختيار فائز من قائمة قصيرة من ستة كتاب. حالة من عدم الرضا تشمل كل الجوائز تقريبا، وربما نجت منها جائزة كتارا، لأن الفائزين ثلاثة وليس واحدا. لكن هذه المرة قد يسبب هذا العدد الكبير للمرشحين شيئا من عدم الرضا. فالمرشحون معروفون على الأقل في بلادهم، وكثيرون منهم معروفون خارج بلادهم، وأنا سأبتعد عن ذكر أسماء حتى لا أبدو مؤيدا لكاتب على آخر، رغم أن أيّ حديث أقوله ليس وراءه أي غرض، فقد حصلت على هذه الجائزة في دورتها الأولى.
نعود إلى موضوعنا، وهو إعلان ستين عملا في كل من الرواية المنشورة وغير المنشورة. أيّ مئة وعشرين اسما مرشحة للفوز. طبعا هذا أيضا يمكن أن يعكس أزمة اللجنة مع الأعداد التى تستحق الفوز، وربما أرادت إعلان تقديرها للكثيرين، أو هدنة واستراحة حتى تختار من بين الستين في كل مجال. البعض يتساءل كيف للجنة أن تقرأ مئات الأعمال فى شهور قليلة. عادة لا يعرف المتسائلون أن هناك لجانا أخرى تتقسم بينها الأعمال، ثم تصل الأعمال المرشحة إلى اللجنة الرئيسية. لا يمكن للجنة واحدة أن تقرأ هذا الكم الكبير جدا من الأعمال. لقد قمت بالتحكيم في جائزة ساويرس مثلا أكثر من مرة، وكنا نجد ارتباكا في قراءة الأعمال، رغم أن اللجنة من خمسة أفراد، والأعمال لا تتجاوز المئة أو المئة والعشرين. كنا نجد طريقة لتقسيمها على مراحل، بحيث يقرا كل اثنين من المحكمين أعمالا متشابهة في المرحلة الأولى، فتقل الأعداد في المرحلة الثانية ويقرأها المحكمون الخمسة.. حين تفوق الأعمال الألف أو الألفين، فلا بد من وجود لجان فرعية أولى متعددة، تنقسم بينها الأعمال. أحاول هنا أن أجيب على أسئلة تساعد السوشيال ميديا في شيوعها فهي الأسهل.

الرواية تتقدم المشهد في كل البلاد العربية، بل في العالم، وليس هذا انحيازا للرواية، بل إنه أحد أسباب دهشتي، رغم كتابتي للرواية، ومعرفتي بالأسباب التي جرت مع التحولات الكبيرة في العالم منذ السبعينيات، فأراد الإنسان أن يحكي، وأراد القارئ أن يسمع الحكاية

احتلت مصر مكانة متقدمة في عدد الكتّاب المرشحين في كل فئة. طبعا هذا يرجع إلى عدد الكتّاب في مصر، الذي يفوق عدد كتاب أيّ دولة عربية بحكم عدد السكان. أنا لست من القائلين إن مصر أو العراق أو سوريا أو المغرب، أو غيرها من الدول العربية تتقدم المشهد. الرواية العربية هي التي تتقدم المشهد، وكلمة عربية تعني كل البلاد العربية ومنها مصر، فالجميع يكتبون باللغة العربية. الصحافة والميديا كثيرا ما تضع عناوين مثيرة ، مثل ما حدث مع فوز الكاتب العُماني زهران القاسمي بجائزة البوكر. عناوين من نوع الرواية العمانية تتقدم المشهد. طيب من تقدم المشهد العام الفائت ومن سيتقدم المشهد العام المقبل؟ الرواية تتقدم المشهد في كل البلاد العربية، بل في العالم، وليس هذا انحيازا للرواية، بل إنه أحد أسباب دهشتي، رغم كتابتي للرواية، ومعرفتي بالأسباب التي جرت مع التحولات الكبيرة في العالم منذ السبعينيات، فأراد الإنسان أن يحكي، وأراد القارئ أن يسمع الحكاية. فكرة الدولة العادلة التى يتساوي فيها الناس فلا يجدون نواقص يتحدثون أو يكتبون عنها، فكرة طوباوية كالدولة التي يتحدثون عنها، ولن تتحقق، وإذا تحققت هذه الفكرة فلن تنتهي الرواية وحدها، بل سينتهي الشعر أسرع . ولا تنسى أن أفلاطون لا يوجد في مدينته الفاضلة شعراء، لأنهم لن يجدوا الكمال الذي يريدونه. طبعا لم يكن هناك روائيون ليمنعهم، كان كتاب الملاحم الشفاهية شعراء أيضا. نصيب المبدعين دائما النفي حتى في الخيال، ما دام الخيال يصنع دولة على رأسها حكّام. لن أغالي وأقول يا قوم، المبدعون خلقهم الله هكذا، وهو الذي نفحهم بالموهبة، فلا تعتدوا على إرادة الله. سيكون نصيبي نقدا وانتقادا وتكفيرا ربما! المبدعون هم الحائط المائل لكل نظام شمولي أو ديكتاتوري. ترتكب النظم الديكتاتورية كل الأخطاء، وتحملها للأضعف وهم المبدعون. أعود إلى فكرة الستين كاتبا في كل مجال، وما أثارته في نفسي أنا. وبعيدا عما نسميه في مصر «القَلْش» الذي ظهر في بعض التعليقات ولم يعجبني، فاختيار ستين عملا ليس مدعاة للسخرية، بل ـ كما قلت ـ فيه جانب من الاحتفاء كبير. لكني هنا الآن وعلى عكس ما هو جار، أو ما قد يكون من حفاوة بالرواية، أرى في هذه القائمة بداية النهاية لزمن الرواية. كيف؟ عادة غياب أسماء المتقدمين لأيّ جائزة يثير الأشواق إليها، وتبدو فيها المسألة أكثر درامية ومغرية على الدخول، لكن ظهور هذا الكم من الأسماء قد يجعل البعض يفكر أن المنافسة ليست سهلة. غياب الأسماء حتى رغم نشر الأعداد النهائية يجعل الأمر مغريا. وعادة لا يفكر كاتب وهو يتقدم إلى جائزة في منافسة أسماء بعينها، ولا حتى اسم واحد. غايته شيء من الانتشار، وشيء من المال أكثر في زمن صعب في بلاد مثل مصر أو تونس أو الجزائر أو المغرب مثلا، وربما شيء من الاعتراف الغائب عن الكثيرين، بسبب فيض الإنتاج وقلة عدد النقاد. لا شيء أكثر من ذلك. لكن حين يرى الكاتب أسماء منافسيه رؤية العين بهذا العدد، فأمر قد يربك البعض، رغم ما قلت من معرفة الكاتب بالأعداد الكبيرة من المتقدمين. كذلك عرف التاريخ أنه حين تكبر وتتضخم ظاهرة ما، وتملأ الأرض والفضاء، تنتهي. تماما كالحضارات القديمة التي غزت بلادا كثيرة حولها، ووصلت إلى قمتها، ثم انهارت واختفت. أجل الرواية الآن مثل الاستعمار القديم، تستحوذ على كل الشعوب ونحن نعرف، لكن لا نرى كل الأسماء. أما وقد رأينا فسينفتح الطريق إلى التضاؤل والانكماش، لن أتحدث عن أشياء أخرى سبق وتحدثت عنها مثل الذكاء الاصطناعي، الذي سيصنع الروايات فتختلط الرواية المصنوعة، مع الرواية بنت الروح والإبداع الذاتي، فيترك الكتاب الشارع إلى الأزقة الخالية مثل الشعر، أو يدخل الرواية كل من لديه الوقت ليلعب مع الذكاء الاصطناعي ومع النقاد، فيعزف عنها الموهوبون ويترحمون على زمنها، وعلى زمن المذاهب الأدبية والفوارق بينها، والفلسفة التي وراء كل منها، وتصبح الرواية لعبة أطفال.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية