تنصرف أذهاننا عند سماع كلمة سجن إلى مكان خاص، مُسوّر ومحروس، يعزل فيه سجناء، لآماد تتفاوت، قد تكون «مدى الحياة». السجون الجنائية تبدو كلها من هذا الصنف، وحتى السجون السياسية التي يبدو أنها تعرض تنوعاً أكبر تندرج ضمن المقولة العامة للسجن المكاني أو السجن في المكان. قد نكون حيال معسكر تعذيب مثل سجن تدمر السوري في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، أو شقيقه سجن صيدنايا في سنوات بشار، أو حتى معسكرات الاعتقال النازية التي كان بعضها معسكرات إبادة لم يكد ينجو منها أحد، وبعضها معسكرات تشغيل وتعذيب قتل في كل منها ألوف أو عشرات الألوف، أو أرخبيل الغولاغ الستاليني الذي أودى خلال عشرين عاماً بحياة الملايين، أو «معسكرات ترشيح» يحتجز فيها الناس عشوائياً، قبل أن يحتفظ بالمرشحين للاعتقال المديد أو التصفية مثلما مارست روسيا البوتينية في الشيشان، أو غوانتانامو الأمريكي المقام على أراض كوبية، والذي تنكر العدالة على «نزلائه» الموصوفين بأنهم «مقاتلون غير شرعيين»، لكن هذه الاختلافات لا تلغي خاصية جامعة لهذه السجون: إنها سجون مكانية. ولا تنتفي هذه الخاصية إلا بانتفاء شرط واحد: معرفة الأهالي بأن أخصاءهم محجوزون هناك. وستتضح دلالة هذا التحفظ في ما يأتي من المقال.
وما يسوغ الكلام على سجون في المكان هو وجود سجون في الزمان، وهو وجود يستحق أن يصاغ مفهومياً وأن يطور خطاب بشأنه. المقصود بالسجن الزماني أو في الزمان هو حالة اللابديل، الدوام المفروض لبنية اجتماعية سياسية قائمة. حالة اللابديل تعني العيش في حاضر مؤبد كأنه سجن، بلا وعود ولا آت مغاير، أي بلا مستقبل، ما دام المستقبل هو المستقبل البديل أو المختلف.
العالم كله يعيش في سجن زمني، محروم من مستقبل مختلف، منذ أيام مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان، والثورة الليبرالية الجديدة في ثمانينات القرن الماضي
حين لا يكون المستقبل مختلفاً، فإننا حيال دوام وأبد، تكرار الشيء نفسه. يشبه الأمر حالتنا في سوريا طوال 52 من الحكم الأسدي الذي يتكلم صراحة على الأبد، مع كل ما ينطوي عليه مدرك الأبد من تَسيُّد وعتو فاشي وحرب ضد المستقبل. لكن حالة اللابديل اليوم عالمية. العالم كله يعيش في سجن زمني، محروم من مستقبل مختلف، منذ أيام مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان، والثورة الليبرالية الجديدة، في ثمانينيات القرن الماضي وأكثر بعد انهيار وتفكك المعسكر السوفييتي. هذا السجن الزماني يمكن أن يكون أخطر من سجون المكان لأنه محسوس أقل. وبينما يناضل سجناء المكان من أجل الحرية والعدالة، من أجل عالم بلا سجون، يُحتمل لسجناء الزمان أن يفروا من الحاضر المؤبد نحو الماضي، مثلما يفعل الإسلاميون في مجالنا، وما تفضله حركات اليمين الشعبوي في أوروبا والغرب، أو نحو مستقبل متوهم، طوبى مجردة يمكنها أن تكون عدمية مثل الحركات الماضوية. وقد لا نكون اليوم بعيدين عن تولد مثل هذه الحركات العدمية التي سبق أن رأيناها يوماً في «روسيا الأبدية» في أواخر القرن التاسع عشر، بل يمكن التفكير في البلشفية ذاتها كمستقبلية مجردة، مع منازع عدمية وإرهابية قوية.
ولتجسيم الفرق بين سجون المكان وسجون الزمان يمكن استحضار التجربة الشهيرة لفأر وضع في ماء ساخن فاستجمع قواه وقفز من الوعاء ناجياً بنفسه، فيما وُضِع فأر آخر في ماء يجري تسخينه ببطء، فمات في النهاية مسلوقاً. في السجن الزماني، نحن مثل الفأر الأخير. بيئياً، نحن نتسخن مثله، ونتجه لأن ننتهي مشويين. وسياسياً، نتعفن في سجن حاضر أبدي. وهذا شرطنا العالمي اليوم.
ما يبثه العالم اليوم من شعور بالضيق في نفوس أعداد تبدو متزايدة من الناس يتصل على الأرجح بتضيق العالم بفعل زوال أو ضمور البعد الزماني. الضيق المكاني نفسه ليس مجرد علاقة بين تزايد السكان والمساحة الجغرافية لمنطقة، أو بلد ما، ليس مسألة كثافة سكانية، بل هو قبل ذلك علاقة سياسية تتصل بدرجات الرقابة والتقييد المحتملة لحركة السكان وتفاعلاتهم، وما قد يتولد عنها من بدائل ومستقبل مغاير. لقد بدا لعقود طويلة أن لبنان أكبر من سوريا، ويعرف الناس أشياء كثيرة عنه وعن سياسييه وبرلمانييه وإعلامييه، بحكم ما تميز به البلد الصغير من تعدد وتفاعلات حرة، ضمنه ومع العالم. هذا اليوم في تراجع مؤلم، لكن لبنان لا يزال بهذا المعنى العلائقي أكبر من سوريا التي تفوقه مساحة بنحو 18 مرة، وسكاناً بأربع أضعاف. وتبدو أوروبا كبيرة يقصدها الناس من افريقيا والشرق الأوسط وغيرهما سعياً وراء سعة العيش فيها، مع كونها أصغر في المساحة بكثير. لكن أوروبا نفسها متجهة نحو الضيق بفعل ضمور البعد الزماني. تضافر الضيقين المكاني والزماني لا يبعد أن يؤدي إلى انفجارات مهولة. ولا يكون السجن المكاني سجناً زمانياً في الوقت نفسه إلا حين يقضي السجناء حياتهم كلها فيه، فلا بديل أمامهم ولا مستقبل مختلف. المستقبل الوحيد بالأحرى هو الموت الذي لا يفرق بين الناس، أحرارا كانوا أم مسجونين. بالمقابل، قلما يكون السجن الزماني سجناً مكانياً كذلك، ما دام أكثرنا غير معتقلين في سجون ضيقة، وهذا مع كوننا جميعاً سجناء عالم بلا بدائل؛ ثم ما دام بعضنا يتحركون بين البلدان، بما فيها بلدان موصوفة بأنها سجون كبيرة. على أن من بين السجناء في الزمان، مثل جميع السوريين، من هم سجناء في المكان كذلك، مثل ما قد يزيد على 130 ألفاً من السوريين اليوم. هذه حال سجن مضاعف، مكاني وزماني في آن.
بيد أن هناك سجون ثالثة لا مكانية ولا زمانية، أو في اللامكان واللازمان، هي ما تُعرِّف وضع المُغيّبين. المغيبون سجناء في اللامكان لأنه ليس لهم مكان معلوم، بل ولا مصير معلوم. وهم سجناء في اللازمان بسبب مجهولية المصير هذه التي تتمادى وتمتد مثلما وقع لمعظم المغيبين في الأرجنتين قبل ما ينوف على أربعين عاماً، ومثلما حدث لألوف في سورية في ثمانينيات القرن الماضي. هناك نحو 112 ألفاً من السوريين يضمهم شرط اللامكان واللازمان اليوم. فإذا اصطلحنا على تسمية لا- مكان التغييب بالمَغيب، فإن المغيب هذا يقع خارج الجغرافيا، تماماً مثلما هي اليوتوبيا. ويصلح المغيب اصطلاحاً لتسمية لا- زمان التغييب كذلك، وهو يقع خارج التاريخ بالنظر إلى أن التاريخ يحيل إلى ذوات ومواقع ومصائر معلومة أو يمكن أن تعلم. ثم إن المغيبين ليسوا في الحياة دون أن يكونوا في الموت بحكم مجهولية المصير ذاتها، وهذا مثلما أنهم ليسوا في المكان ولا الزمان. في المغيب، نحن في عالم مواز، عالم من الغيب الدنيوي.
في السجن الزماني الأكبر ثمة ما يقارب ثمانية مليارات هم جميع سكان الكوكب اليوم. وفي السجون المكانية هناك نحو أحد عشر مليوناً ونصف المليون في العالم. أما أسرى المغيب من المغيبين في سجون لازمانية ولامكانية فعددهم غير معلوم، أصغر على الأرجح من مجموع السجناء في العالم، لكن فيهم يتمثل الغيب، القطب الآخر لهذا العالم المشهود. كان السجن استعارة لوصف بلدان تحكمها ديكتاتوريات قمعية. هو اليوم استعارة لوصف العالم ككل. ففي عالمنا الحالي لا تتقابل سجون بحرية، عالم تقييد وقمع بعالم حر، بل سجون بسجون. ليست السجون كلها مثل أسوئها، لكن قطب السجن هو ما ينمو اليوم وليس قطب الحرية. لقد صار تخيل عالم مغاير وبدائل من أجل عالم مغاير ضرورات ملحة.
كاتب سوري